عهدية أحمد... مصيدة الشك
الوسط - عادل مرزوق
(ألا تدرك المتحدثة الرسمية للانتخابات خطورة أن تحاول هي ولجنتها من ورائها أن تمنعنا من «الشك»...)
تنقل لنا المتحدثة الرسمية للانتخابات البلدية والنيابية 2006 عهدية أحمد السيد أن «اللجنة العليا للانتخابات قررت إحالة كل من يطلق الشائعات المشككة في نزاهة وسلامة الانتخابات من دون دليل أو برهان من مترشحين أو غيرهم إلى النيابة العامة»، ولم تكتف عهدية أحمد بالتوضيح، لتنتقل من حدود «التوضيح» إلى «التحذير». يقول خبر الأمس: «وحذرت عهدية أحمد كل المترشحين وخصوصاً ممن ثبت أنهم يستغلون عواطف الناخبين كسباً لأصواتهم، ودعتهم للكف عن استخدام أساليب ملتوية للترويج لأنفسهم بين ناخبيهم».
وبعد الانتقال من حدود «التحذير» تقف السيدة موقف «التحدي»، فتقول»نتحدى أي مرشح مؤمن بهذا القول أن يثبت صدق ما يدعيه بأن يأتي باسم ناخب واحد ضمن هذه الكتلة المتجولة، وإلا فسوف تضطر اللجنة التنفيذية لاتخاذ الإجراءات القانونية تجاه كل من يروج لهذه الأكذوبة الرخيصة التي نعلم سلفا سبب إطلاقها».
بعد أن استعرضنا مجمل ما خرجت به المتحدثة الرسمية في بيانها يوم الأمس، لنا أن نكمل ما بدأنا به، ومن الباب الأخير الذي انتهت هي منه.
يظهر أن المعنيين بخبر الأمس كُثر، مُترشحون منضمون لكتل وجمعيات سياسية، آخرون مستقلون، صحافيون، قانونيون، وسلسلة طويلة من المتهمين الجاهزين للتحويل مباشرة لأروقة النيابة العامة.
المطلوب حسب عهدية أحمد أن «نصمت» جميعاً، أو أن نتجه مجبرين - وربما كانت أيدينا مغلولة - إلى النيابة العامة، حيث سنلقى جميعاً (مترشحين - صحافيين - حقوقيين ) جزاء أكاذيبنا «الرخيصة»، وأساليبنا «الملتوية» بحسب عهدية، على أن عهدية أحمد نفسها التي قالت عنا ما قالت هي في حقيقتها «متحدثة رسمية» لمؤسسة مهمتها إدارة الإنتخابات، وليست النائب العام مثلاً، وليست - لا سمح الله - عضواً بمؤسسة قضائية.
يبدو أن المتحدثة الرسمية عهدية أحمد لا تؤمن بالشك، وترفض الشك بالانتخابات، وحتى لا أطيل في ذكر مدائح الشك، وأهمية الشك، وديمقراطية الشك، أحيلها لسلسلة كتبها أحد الشكاكين وهو الزميل علي الديري بعنوان «السمك الرعاش»، وفي حال اطلعت المتحدثة الرسمية عليها فسيكون لها أن تفهم/تدرك/ تعرف أهمية أن نشك في الانتخابات، سواء أوجد الدليل المادي على ذلك، أو لا.
وقبل أن ندخل في التحدي، ونحدد زوايا القبول بهذا التحدي، لابد من تفعيل بُعدِ «النصيحة»، وتتمحور فحوى النصيحة في أن تدرك السيدة عهدية ضرورة أن تمارس عادة «الشك»، وأن تتعامل مع المشككين بجدية، وألا تتصور الشك كحالة مرضية أو إجرامية يحال فيها الشكاك إلى النيابة العامة، فتلك الرؤية تعتبر رؤية بسيطة للشك، ولا تتلاءم مع محورية «الشك» في البعد الفكري المعقد، ولا حتى في الشأن السياسي البسيط.
«الديمقراطية» والفعل «الديمقراطي» إنما هي نتائج بسيطة لذلك الذي تعتبره عهدية أحمد جريمة، إنه (الشك) الحدث الديمقراطي الذي تعيشه البحرين أيضاً، الذي أعطاها منصب المتحدثة الرسمية باسمه إنما أتى عبر عملية تفعيل لـ «الشك». البرلمانات الفاعلة في شتى بلدان العالم والمجالس النيابية إنما وجدت لأن الناس باتوا يشكون في السُلط السياسية، وقدرتها، ونزاهتها، وحمايتها للمصلحة العامة، فكان لها أن تخفف من هذا الشك بان تخلق بين الناس والسلطة هذه المجالس والبرلمانات. وفجيعة يوم الأمس هو أن المتحدثة الرسمية باسم المؤسسة التي تدير عملية نشأت من الشك تهدد وتتوعد بأن ترسل كل من يشك ويشكك إلى النيابة العامة!
ليست هذه التجربة السياسية عن بكرة أمها وأبيها إلا نتيجة للشك، فكيف يحال المشككون للنيابة العامة لأنهم شَكوا، وشككوا، ومارسوا عملية إنسانية بالدرجة الأولى، وهي أن يمارسوا «الشك»، لا يمكن لأحد ما أن يصرح بأنه سيقاضي إنساناً لأنه «شك» و»شكك». في أي ديمقراطيات العالم تحدث أحد ما بمثل هذه البيانات اللامسئولة.
وعوداً على الموضوع الأهم، وهو «الشك» و»التشكيك» في الانتخابات، وفي نزاهتها، وفي الكتلة المتجولة، وفي المراكز العامة، ولا نستثني من ذلك بعض الشخصيات - أرجو تفعيل الشك في هذه الجملة بأعلى مستويات الشك - التي تدير العملية برمتها، بمرجعية أن ممارستنا للشك، ليست سوى حالة من حالات السواء الإنسانية الطبيعية، ولا يمكن أن نصفها وما ينتج عنها بأنه «أكذوبة رخيصة» أو أسلوب «ملتوٍ».
أن نمارس الشك في العناصر المكونة للانتخابات النيابية معناه أننا نصدقها، وأننا نؤمن بها، وأننا ننتظر على الدوام من عهدية احمد ومن بوعلاي سد منافذ هذا الشك أو تخفيفها على الأقل، أما أن تتحدانا المتحدثة الرسمية وتهددنا باقتيادنا للنيابة العامة فمعناه أن لا حق لنا في أن نمارس إنسانيتنا، التي لم نكن نحن ما أردنا لها الوجود في هذا العالم، وفي هذه البلاد. معناه أيضاً، أننا أمام نموذج فريد ومبتكر جداً من المطالبة بألا نكون «إنسانيين شكاكين»، معناه أيضاً، أن ممارستنا الديمقراطية مبتورة، ليست مبتورة فقط، فهذا تخفيف رهيب لحقيقة أننا مطالبون بأن نتنازل عن هذه العملية الديمقراطية برمتها، وألا نقبل بها إلا كما يريد لها مدراؤها أن تكون. تضع لنا عهدية احمد خياران لا ثالث لهما، إما أن نصدقها في أن الانتخابات نزيهة منذ الآن، وقبل أن تتم، أو أن نذهب للجحيم.
تصر المتحدثة الرسمية على ألا يكون تشكيكنا بالانتخابات إلا من خلال وثائق وأدلة ملموسة، وليس لها الحق في أن تطلب منا ذلك لسببين، السبب الأول «طبيعي» لا نملك أن نسيطر عليه، فمن منا يستطيع أن يتوقف عن ممارسة «الشك»، إننا فئة تعيش طبيعيتها بدقة، نحن نشك، إذن نحن أحياء، ثم ألم تستطع المتحدثة الرسمية أن تلاحظ أن 90 في المئة مما نقوم به في حياتنا ما هو إلا وليد الشك، وللشك، ومن أجل الشك.
أما السبب الثاني - وهو الأهم بالنسبة لها على الأقل - هو أن أكبر دليل على شكنا المتزايد - الذي تعتقد عهدية أحمد أنه شك «أكذوبة» - هو ببساطة «ممنوع من النشر».
تدرك المتحدثة الرسمية تحديداً، أن عرض الأدلة على شكنا بالمراكز العامة والكتلة المتجولة والتصويت الإلكتروني وبعض الأسماء المشرفة على الانتخابات يحتاج رفع المنع. حتى تكون الأدلة ملموسة، وحتى يطال الشك من يطال من أسماء تبدو متصدرة للصحف الأولى لتعويلها على أن الذاكرة تضعف محال. إننا نحتاج الذاكرة القوية لنمارس الشك، وعليه ذاكرتنا قوية وستذكر ما تريد استذكاره مباشرة دون صعوبة.
لابد للمتحدثة الرسمية من أن تبحث عن طريقة ما لرفع الحظر على نشر دليل «الشك» و»التشكيك» عن جميع من نشك فيهم، ومنهم. وحين يرفع الحظر ستدرك عهدية أن شكنا لم يكن شكاً فحسب، وأن به من اليقين الكثير.
لا نلوم عهدية احمد على شكها فينا كمترشحين وسياسيين وصحافيين وحقوقيين، فلا يجوز لنا أن نلوم فيها إنسانيتها، فالمترشحون يسعون لكسب الأصوات (اتهمت المتحدثة الرسمية المترشحين في تصريحها بأنهم يسعون لكسب تعاطف الناس وبالتالي أصواتهم)، وكذلك هو الحال بالنسبة للصحافيين الذين يسعون للمزيد من الشهرة، هذا «حق» لا نسلبه إياها. لكن من أعطاها هي الحق في سلب «حقوقنا منا، وفي تقويض هذا الفعل الديمقراطي أصلاً، وفي حجزنا من أن نكون إنسانيين؟