من شكيب أرسلان إلى الشيخ عيسى قاسم
لو سألت إحدى الصحف قرّاءها: من هو شكيب أرسلان؟ لاعب كرة مغربي؟ أم مغنٍ جزائري؟ أم شهيدٌ فلسطيني؟ أم فنّان تشكيلي سوري؟ فماذا تتوقعون أن تكون أغلب الإجابات؟
هذا الأديب اللبناني عاش 77 عاما، قضى خمسين منها في القراءة والكتابة والخطابة ونظم الأشعار، وكتب مئات المقالات في عشرات الصحف والمجلات، وخلّف عددا من الكتب تأليفا وتحقيقا وترجمة... ولتميّز أسلوبه بالفصاحة أطلق عليه معاصروه «أمير البيان».
كان أحد نجوم العصر في النصف الأول من القرن العشرين، زار مصر فأقيم له حفل تكريمٍ فارتقى أحدهم المنبر وقال: «رجلان في التاريخ يستحقان لقب أمير البيان: علي بن أبي طالب وشكيب أرسلان»، فقام أرسلان غاضبا وصعد المنصة ليقول: «أين أنا وأين علي بن أبي طالب! أنا لا أعد نفسي شسع نعل لعلي (ع)»، فلماذا تضيع منزلة عليٍّ عند بعض أتباعه حتى يتمنى لو يبادلهم مبادلة الدينار بالدرهم؟ وأليس من المفارقة التاريخية أن أروع ما كُتب عنه شعرا ونثرا، إنّما جادت به قرائح المسيحيين العرب؟
أليس غريبا أن يتحدّى جورج جرداق، (صاحب موسوعة «الإمام علي صوت العدالة الإنسانية»)، الدهر بأن يستجمع كل قواه ومواهبه ليمنح الوجود مرة ثانية رجلا كعليّ... بينما يهون عليٌ (ع) على بعض أتباعه فيستخدمون اسمه في صراعاتهم الصغيرة... أو للدفاع عن أحد العلماء المستهدَفين بالحملات الظالمة؟
لماذا كان أجمل ما كُتب عن عليٍّ إنما سالت به أقلام سليمان كتاني وجوزيف الهاشم وعبدالرحمن الشرقاوي وميخائيل نُعيمة وجبران خليل جبران؟ وهل كان علي شريعتي مخطئا في تشخيصه حين كتب عن محنه الثلاث؟ ألا يكفي قوله الفصل: «ألا واللهِ لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد، وعفةٍ وسداد»، بعد أن ذكّر أتباعه بأنه اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه؟ ومَن مِن علمائنا وصلحائنا اليوم من يقدر على الاكتفاء بثوبين باليين ورغيفين خشنين يليّنهما بالماء ويرشهما بالملح... حتى تصح المقارنة ويستقيم التشبيه؟
في موقعة الجمل التي اقتتل فيها الصحابة الكرام، استشكل أحدهم على الإمام قتله لمناوئيه، فردّ عليه: «إنك لملبوسٌ عليك. إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله». وعلى ذلك علّق طه حسين قائلا: «ما أعرف جوابا أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحدا مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحدٍ مهما تكن مكانته... بعد أن سكت الوصي وانقطع خبر السماء».
لم يكن بالنية الكتابة عن عليٍّ هذه الأيام، فقد ادخرت ذلك لذكرى شهادته بعد أسبوعين، لكن من المداهنة السكوت بعد أن أنزلنا عليا ثم أنزلناه حتى قرناه ببعض علمائنا، وهو الذي كان يرفض أن يُقرن بتلك النظائر في لعبة الشورى والانتخابات والتوازنات السياسية التي فرضتها القبائل في عصره.
المتوقع اليوم أن يخرج الشيخ الجليل عيسى قاسم، المعني الأول بهذه الإساءة، ليقول كلمة تحسم هذا الجدل، تدفع الإساءة عن علي (ع) أولا، وعن مدرسة أهل البيت ثانيا، وعن نفسه ثالثا. فالرجل الذي حرّم لصق صوره على الجدران قبل أسبوعين، لن يقبل بالزج باسمه في معارك تشغل الناس عن قضاياهم وحقوقهم وحاضرهم. وحريٌ بالسيد حيدر الستري أن يراجع موقفه بما يخدم الحقيقة العليا، فعليٌ نموذج الإنسانية التي تتطلع لرؤيته الأرض وتشتاق السماء.