العدد 213 بتاريخ 06-04-2003م تسجيل الدخول


الرئيسيةالحرب
شارك:


الهجمة على سورية زفرة المحشور

أيُّها الأميركيون عودوا إلى السياسة!

دمشق - عماد شعيبي

تناوبت التصريحات التي تناولت سورية من الطرف الأميركي بين تصريحات نارية لوزير الدفاع الأميركي رامسفيلد التي اعتبر فيها أن سورية تمرر أسلحة إلى العراق تساعد على الرؤية الليلية وأن ذلك يُعتبر عملا عدوانيا ستحاسب عليه دمشق، وبين تصريحات وزير الخارجية باول التي تحدث فيها عن وضع سورية بين خيارين إما معهم وإما ضدهم مع تحمل المستتبعات، ثم تصريحات رامسفيلد التي صادق فيها على تصريحاته الأولى بالقول إن شيئا ما لم يتغير في الموقف السوري، ثم ثنّى باول بالحديث عن معرفتهم! بأن سورية وإيران تطوران أسلحة دمار شامل، وأنهما تدعمان نشاطات إرهابية (في إشارة إلى المقاومتين اللبنانية والفلسطينية).

بين كل هؤلاء يذهب باول إلى أنهم لا يودون شن حرب على سورية بالاكتفاء بالاجراءات الاقتصادية والسياسية والقدرات الاستخباراتية، معرجا على (وأحيانا القوة، كي يبقى في الإشارة شيء ما يتناغم مع القوة المنفلتة من عقالها، والإشارة الأخيرة لا نفهمها إلا باعتبارها إكمالا للوحة وليست أساسها!).

والحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع في هذا السياق أن الأميركيين يفهمون تماما طبيعة العلاقة مع دمشق باعتبارها «مكاسرة إرادات» على عدة مستويات:

الأول المستوى الإقليمي: إذ لا تقبل سورية بإطلاق يد دولة عظمى بمصير كل المنطقة، وهذا لا يعني القتال إنما يعني المكاسرة. فالسياسة السورية تقوم على المصالح المتبادلة وليس إلغاء الآخر سواء الطرف العربي أو مصالح الآخرين، على أن يكون ذلك كله على أساس «الاعتماد المتبادل» (INTERDEPENDENCE) السلمي، وعلى قاعدة سيادة الدول التي هي جزء من تاريخها ومستقبلها، وقد دفعت الكثير من التضحيات والتكاليف من أجل ذلك، وهي غير مستعدة ولا بأي حال من الأحوال أن تخون هذا الميراث.

الثاني المستوى الدولي: فالأميركيون يريدونه نظاما واحديا لا فيتو فيه لغيرهم، وفي طريقهم إلى هذا النظام العالمي الجديد يغيرون المفاهيم التي تم التوافق عليها في شرعة الأمم المتحدة كميراث لما بعد الحرب العالمية الثانية، فممنوع على أحد أن يرفع سلاحا إلا بأمر أو توافق مع الأميركيين، حتى ولو كان ذلك دفاعا عن أرض أو تحريرا لها؛ والقاعدة التي يحاول أن يرسيها الأميركيون هنا هي الحل التوافقي بالطرق السلمية وبما تقتضيه الوقائع الراسية على الأرض بحكم الأمر الواقع، وبالتالي إلغاء مبدأ الحقوق، وفي سياق من تعميم لعقلية الأميركيين التي لا تقوم على تقديس للأرض وللحقوق إذ كل شيء خاضع لمنطق السوق ولإرث الذين لا يرتبطون بالأرض لأن لا علاقة لهم تاريخيا بها، حيث التاريخ، مقطوع وناشئ وحديث... وطارئ!.

وفي سياق المفاهيم التي يجب أن تتغير، إذ بات واضحا أنهم أعطوا ظهرهم لمجلس الأمن، ويعطون ظهرهم لقيم الشرعة الدولية كلها، فكرة حق الدفاع عن الأرض، ومبدأ سيادة الدول، إذ لا سيادة إلا لما يتوافق مع القيم الأميركية. وهنا بالذات تبدو المعادلة في أخطر صورها؛ فلا قيمة سياسيا لذاتها بما فيها السيادة، ويربطون ذلك بعنوان عريض هو الديمقراطية على طريقتهم؛ أي الديمقراطية التي تأتي مسبقة الصنع والتي يمكن التغاضي عنها إذا ما خرجت عن التبعية الكاملة.

هذه المكاسرة الدولية واضحة بين دمشق وواشنطن؛ فسورية ترى أن الشرعة الدولية بكل قيمها يجب أن تستمر وتطور لا أن تنقضّ الولايات المتحدة عليها، فالمقاومة هي المقاومة وليست إرهابا، والسيادة حق مطلق للدول ولا يجوز الاعتداء عليها، وأن من لا يرى ذلك في موقع الضعيف وليس من يتمسك بها، وذلك مهما كانت الضغوط التي لن تتجاوز في لحظة الحقيقة حدود الضغوط، وهذا هو شأن السوريين دائما أنهم تعودوا على كل ما سبق من الضغوط. صحيح أن العالم مختلف والظرف مختلف، ولكن هذا لا يعني بالنسبة إلى السياسة السورية أن ترتعد أو ترتج، إنما أن تبدل الوسائل ولا تبدل المفاهيم.

ديمقراطية الدبابات

مشهد غريب من نوعه أن نلاحظ أن العالم بأسره ينظر إلى ما يحدث بصمت، ووحدها سورية ترفع صوتها ضده وتسميه بالاسم بأنه عدوان، وأن الوقوف إلى جانب الشعب العراقي شرعي، لأن الشعب نفسه اختار المقاومة، وبالتالي فسورية معه.

ولأنهم يقولون بالديمقراطية التي يحملونها على الدبابات، فإن الديمقراطية تقتضي عدم كم أفواه الشعوب وعدم منع الناس من أن يتناغموا مع خياراتهم الحرة برفض الحرب أو التطوع الحر لمساندة الشعب العراقي ضد عدوان موصف بأنه عدوان وليس غير ذلك. دمشق لا تنظم ولا تتدخل في خيارات الناس، وهذا موقف ديمقراطي بامتياز يجب على دعاة الديمقراطية أن يصفقوا له بشدة!.

الحقيقة أن الأميركيين في موقفهم تجاه سورية يضطربون كثيرا، وكان عليهم أن يصمتوا لأن صمت الدول أكثر هيبة من سفح المواقف الضعيفة، ولكن ما العمل مع الذين لا يفقهون بالسياسة ويريدون تغيير قواعد العالم، وقواعد السياسة أيضا، وهذا مستحيل؛ فهم قد ينجحون إلى حين لكنهم لا يستطيعون أن يعاودوا اختراع الدولاب السومري مرة أخرى وعلى طريقتهم.

قوة بلا هيبة

إن أولى قواعد السياسة أن القوة التي لا تستخدم تبقى لها هيبتها، أما إذا استخدمت فإنها تفقد ثلث هيبتها، وإذا استخدمت ولم تكن حاسمة على طريقة «الصدمة والرعب» فإنها تفقد الثلث الثاني، وإذا لم تصل إلى نتيجة سياسية استراتيجية تفقد الثلث المتبقي، والمؤكد أن حماقة تغيير كل قواعد السياسة أوقع الأميركيين في فقدان ثلثي القوة، ونتوقع لهم فيما لو انتصروا في القتال أن يفقدوا الثلث المتبقي؛ لأنه سيكون عصيا عليهم تحقيق إنجاز سياسي (استراتيجي).

ولهذا فمما يبعث على الرثاء للأميركيين أنهم لا يحفظون ماء وجههم مع السوريين لأن تصريحاتهم تزيد في سفح هيبتهم، فسورية لا يمكن تناولها لعدة أسباب نذكرهم بها:

أنها لا تخترق الشرعة الدولية.

أنها لا تخضع لعقوبات دولية.

أنها دولة مركزية في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة.

أنها ستكون طرفا في كل شأن إقليمي.

أنها طرف ولاعب أساسي، بالتجربة، في حملة مكافحة الإرهاب.

أنها لا تضع البيض كله في سلة واحدة، وأن لها خيارات عدة وهي خير من يطبّق القاعدة الذهبية في السياسة: «ضرورة الاختيار» (THE NECESSITY OF CHOICE)

أنها تنتهج السلام خيارا استراتيجيا.

بعد الحرب لابد من العودة إلى السياسة، وعندئذ لا بد من العودة إلى القوى الرئيسية ذات الوزن الإقليمي.

أن الخيار الصفري مستحيل في السياسة، فأميركا لا تستطيع أن تلغي الجميع تحقيقا لمصالحها.

أن التعامل مع أية دولة في محيط «إسرائيل» بالقوة لإنهاء قواها كليا، ولو (حرف امتناع) أمكن له أن يتحقق سيعني تمددا لإسرائيل بما لا ينسجم مع المصالح الأميركية ولا الأوروبية، وسيجعل «إسرائيل» كالديناصور الذي كبر جسده بما لم يستطع أن يحمله عقله، فانقرض وكان انقراضه مأسويا له ولمن سمّنه!

إن قاعدة «عاقل ضدي خير من مجنون معي» تبقى القاعدة الأساس في العمل السياسي، بعد أن يعرف الذين انتهجوا الحرب طريقا أن لا حرب للحرب.

لكل هذا ولدواعٍ أخرى ! لا معنى ولا وزن لتهديدات الولايات المتحدة لدولة كسورية.

يفهم الأميركيون أن سورية بنت علاقتها معهم على أساس التعامل (بالمفرّق)؛ أي بالتفاصيل وليس (بالجملة)؛ أي بالخضوع الكامل لهم. فسورية تتقاطع في قضايا وشئون مع الولايات المتحدة كالحملة على الإرهاب الدولي، والسلام (عندما يعودون إليه) ولكنها تختلف معهم في أمور أخرى كتعريف الإرهاب وطريقة التعامل مع العملية السلمية والحملة على العراق، وهذا يعطيها مساحة التطبيق بالأمر الواقع لمبدأ السيادة وعدم الارتهان لأحد.

نأمل أن تصل الرسالة إلى الذين يتحفوننا بتصريحاتهم. صحيح أننا لا نستطيع أن نمنعهم من «زفرات المحشور»، ولكننا نتمنى لهم أن يتذكروا قواعد السياسة التي يخترقونها، من أجلهم هم لا من أجلنا



أضف تعليق