العدد 5378 بتاريخ 28-05-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... القناعة

آسية الهرواشي - قاصة مغربية

من اكتنز القناعة في روحه فقد أحسن لحاله ولشأنه، وأفقهه من علم الزمن، ثم أظفره بقدرات خارقات مبهجات تبلغه من الحياة غايتها ومن السعادة منتاها. ولطالما شعرت بسكينة عميقة تسري داخلي ولا تتوقف، تتولد عن رضاي الذي يتملكني أمام ارتماء الشهوات والملذات وكل ما يحق لي، وتنمو وتكبر وتشتد وأنا متشح بقناعتي الوارفة الصادحة بمقتضيات القدر وإجهادات الزمن. القناعة اختياري، وإن كان لدي بديل.

وعيت على نفسي على هذا الحال، ومضى على هذا الوعي عشرون سنة، لكن وعيي وحالي ليس مثل سائر الناس، ومن هنا هذه القصة، وهي في الواقع رؤية روحية لمعنى قناعة الرجل بقنطار، وجشعه بثمن بخس.

كنت أعرفه منذ الصغر. وكان الرجل شرساً، فاقدا للصواب. وكان الناظر إلى وجهه يظن عكس ذلك، فقد بدت عليه كل معاني البراءة والوداعة. لكن أؤكد لكم أنه لم يكن كذلك، فكثيراً ما نهب وسرق وضرب وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف.

عجبت لسلوكه وعنفه وتفاقم حاله، حتى صرت عدواً في نظره، فاستغنى عن صداقتي بعد أن اتضح، لي وله، اختلاف دروبنا ووجهتنا، فألزمني بالحذر منه، وألزمته بالبحث عن صديق آخر، من نوع آخر، وهذا ما وجده بسهولة.

وذات يوم، وبالتحديد في اخر يوم من شهر ديسمبر، حيث لم يتبق سوى ساعات على حلول السنة الجديدة. أتى إلى منزلنا ومعه رفقة، ثم راح يسأل عني إخوتي. كان يبدو واثق الخطى، أهيف القامة، لكن كان ملتحياً وقد امتلأ وجهه بالغضون كأن شيخوخة قد شبت في وجهه مبكراً على غير العادة. تهللت أسارير وجهه حين ظهرت أمامه بشعري الكث الطويل. هرع إليّ بلا تعقل فعانقني وهو يقول: "أحتاجك يا صديقي". ثم بدأ يبكي ويبكي في ذل واستسلام. تبينت قسمات وجهه الحالك، فصدحت في نفس الوجه: "أنا معك يا صديقي، لا تقلق". نظر إليّ لحظات ثم قال في هدوء غريب: "اسمع يا أخي، لدي عمل لك، إن قمت به أكون ممتناً لك للأبد. سنستفيد نحن الإثنين".

وبعد ساعة من الزمن، وجدت نفسي في المدينة وقد تركت القرية في ليلة شتوية باردة يزحف زمنها نحو المنتصف وفجرها يبدو موعده قريب، نزلنا من السيارة نسير في الساحات الواسعة والممرات الطويلة وبين لوحات الإعلانات العجيبة. وكنت أنا القروي القادم من أرض الروث والحظار أتأبط كيساً ورقياً مغبراً، وأحملق في الوجوه الجميلة الزاهية المحتفلة ببلاهة. لا أحد ينظر إلي، لا أحد يهتم بي سوى صديقي وصديق صديقي وهما يقودانني إلى ما لا أعلم عنه سوى أنه عمل مهم.

وكانت أمعائي خاوية تزغرد في بطني المجوف. ولم أنتبه إلا حينما سمعت إحداهما يقول: " لقد وصلنا". أدخلاني إلى قاعة قمار ففزعت من هول ما رأيته ووقع ما لم أتوقعه. والواقع أنني لم أفهم لماذا أنا هنا؟ وأي عمل ينتظر شخصاً مثلي في مكان مقرف مثل هذا؟
ولما سمعت من الصديق عن مهمة احتيال ينصبها لأحدهم انتقاماً حيث أنا اللاّعب الرئيسي في لعبته القذرة، وقفت ذاهلاً وخرجت من القاعة بعد أن تنبهت لأطماعه واستغلاله لسذاجتي واحتياجي للمال. تبعني الرجل لكن هربت وعدت إلى القرية سالماً من شره معصوماً، وبالقناعة مسلحاً. ويعلم الله ما كان خفياً في ذهنه ووراء لعبته تلك.



أضف تعليق