قصة قصيرة... إكراميات الحُزن
إلهام زند - قاصة مغربية
المقهى كان لرجل في الخمسين، مرتاح البال وكثير الشّتم. يشتم الندل والكؤوس والبنّ والحكومة عندما تَرفع سعره. أحبّ الكثير من الزبائن هذا المقهى لأنه لم يكن يضع شروطاً لاستقبال أحد ولأن القهوة وعصير التفاح وباقي المشروبات كانت تُقدّم لهم مع حسّ منزلي من أمومة وصداقة عتيدة تُظهرها مآزر الندل المتّسخة باعتدال مُطَمْئِن.
اشتهر المقهى يوماً عن يوم، وزارته شخصيات مرموقة بأسماء وازنة في العالم، فقد ارتاده السيد فرح بنفسه وسعادة الصدق وفخامة الحبّ شخصياً، وتآخت أبخرة البن بروائح العرق وعطور خشب الصندل ولم يكن ثمّة ما هو أفضل.
سمّتها أمُّها كريمة، وذلّتها مطالب الفقر وأب لا تعرفه لكنه كان حريصاً على ألا يتركها إلا بإخوة خمس يحبّون الغشّ في اللعب والأكل ويذكّرونها به من حيث هو مادّة عامّة للخلق. وهكذا عملت نادلة في مقهى المشاعر، وحافظت على عملها هناك على رغم كل الشتائم التي وضعها ملك المقهى في جيب مئزرها الأبيض. تكلّفت بتقديم الطلبيّات لطاولة الصف الخلفي، وبدا لها أن العالم ممكنٌ لأنها على الأقل كانت تستطيع أن تغني وتلوك علك نهكة القرفة وهي ذاهبة بكؤوس الشاي والقهوة إلى الزبائن. ذات يوم لم تغنّ، فقد كانت سعيدة لدرجة نادرة لا نحتاج معها إلى تأكيد ذلك بالغناء.
ربما قد يكون والدها من زبائن المقهى دون أن تكون قد عرفت لا هي ولا هو، وربما قد يكون طيّباً إلى حدّ أنه تركهم لينعموا بشأنهم بدون إشارات مرور في حياتهم تحدّد السّرعة القُصوى، ربّما الفقر سيء فقط في المرض لأن الدواء غال، وليس بذاك السوء إن كان يحرمك من تناول اللحم فحسب. على كلّ، المهم أن المقهى ازدهر وعملها كنادلة لن يتضرّر. ربما كان يوم خميس أو أحد، عندما غسلتْ البيت المُكترى بحي عامر بالأمراض والزواج، عندما غسلته حائطاً حائطاً وفركت مرحاضه ببقية عجُز مكنسة من لدائن حرشاء. في هذا اليوم، جاء السيد حزن، وكان مهيباً كجنازة كاملة لطيور نورس نفقت جماعياً، جاء للمقهى ومن شدّة هيبته وقف له كل رواد المقهى بمن فيهم فخامة الفرح وجلالة الحبّ... وحتى مالك المقهى المعتد بنفسه وماله... الذي أشار لكريمة بأن تهرول لتهتم بطلبيّة الحزن على وجه السرعة. فعلتْ ما أُمرت بحماس، وقدّ سرّ منها الحزن وملأ جيب مئزرها بدراهم كثيرة - تكفيها لتصير أغنى من مالك المقهى نفسه - يسمّونها إكرامية. غار منها زملاؤها وصاحب المقهى وبقية الروّاد وقالوا بأنها ليست جميلة لتستحق كل ذلك الحظّ وصاروا فجأة من أشدّ المعجبين وأنصار الحزن. أما كريمة، فقد اشترت يداً جديدة للمكنسة ووفّرت باقي المال لطوارئ المرض، وقد وصل إلى الجميع خبر عودة والدها ليطالب بحقه في رعايتها والمحافظة عليها وإخوتها من غدر الزمن ورياحه. وهكذا وتأثُّراً بكونها لم تستقل من عملها بصفتها نادلة، حتى بعد أن صارت أغنى منه، قرّر المالك أن يخفض من راتبها لأن العكس كان سيكون إهانة لثروتها.