القصة القصيرة : فعل ماض
أحمد شرقي - قاص مغربي
"مئتان بلا زيادة في الكلام ولا نقصان. أمثالك المتشبّثون بأفعال الماضي هم خرابنا، صَرِّف الفعل في المضارع يا حاج، لقد ولّى زمن كان آباؤنا وكنا وفعلنا وفُزنا... نحن أبناء اليوم، ولن أبيع لك شيئاً" صرخَت في وجهه بعدما خطفَت الجلباب من بين يديه.
وسط أحاسيسها الضّحلة يقبع حقد نادر، تحاول إخفاءه بقبلات لا طعم لها يستشعرها الصغار قبل الكبار، تحتضن أبناء أختها الكبرى بعنف! تجود عليهم بقطع الحلوى وبدريهمات أحياناً.
لا يستثني شغفها المزيّفُ أبناء الجيران، وكل الأطفال العابرين للدّرب، حيث تداعب بأناملها الآخذة في الانكماش رؤوسهم، في لحظات حنان مفقود.
من زمنها مرّت خمسة عقود، تسابقت الأيام لتلوّث مشاعرها بسُمّ الوحدة والحرمان، تتذكر كل يوم ذلك اليوم المشؤوم، الذي أتى فيه زوج أختها الحالي لخطبتها بعدما لمحها في الحي ذات صباح، وشَعْرُها تنثره في السماء الرياح، كانت في الخامسة عشرة والحلم مباح.
وكانت فرحتها بحضور خاطب إلى البيت ولأول مرّةٍ لا توصف، رأته حينها المنقذ من أتعاب التنظيف والطبخ وكل ما يتعلق ببيت الوالدين، لكن أباها وأَدَ حلمَها، عندما قال لأب الخاطب بالحرف "تقاليدنا حتّمت علينا تزويج الكبيرة قبل الصغيرة" وهكذا كان بعد حديث مطوّل يومها، كانت تتابع أطواره من خلف باب غرفتها المتقابلة مع بيت استقبال الضيوف.
اليوم، مات زوجها فدَفنَت كل شيء، صوتها العذب، مشيتها الأنثوية محسوبة الخطوات وشعرها الطويل وكل شيء، لسانها الآن بتّار، تضاهي في السوق أوائل التّجار.
شمرت على سواعد العمل وعوضت زوجها السبعيني، الذي لبّى نداء ربه بعد ست سنوات من الزواج المتأخر وعديم اللذة لكليهما، أضحى التجار يضربون لها ألف حساب، فسلعتها تباع بسرعة والزبائن يقصدونها علماً أنهم كانوا يجتنبون المرحوم الخشن، كما أن من اقترب من محلّ رزقها متربصاً تلسعه بفضيحة في السوق لن تتمناها حتى لعدوك، ليصبح حديث الساعة "فلان أراد الاعتداء على زوجة المرحوم...".
تبيع ملابس الرجال والأطفال، وكلما غاب الزبائن جلست تهمس في نفسها بألم: "المرأة دون أولاد، كالخيمة من دون أوتاد"، ثم تحاول إخماد ذاكرتها الموجعة فتشرع في التأمل في قوامها الجميل والفاتن رغم مرور الزمن.
رجل هرم فعل به المشيب ما فعل، يُزعج خلوتها بعدما حمل بين يديه جلباباً صوفيّاً يتفحصه:
- كم ثمنه يا ابنتي؟
- مئتا درهم.
- مئتان؟ كنت أشتري أشباهه من زوجك كل عام بمئة فقط