قصة قصيرة... "نجاة"
محمد أنور الحجري - قاص مصري
عندما تمر في شوارع عشوائية لتصل إلى وجهة ما، تشعر أن هناك شيئًا ما تستدعيه ذاكرتك، تظن أنه مجرد هذيان للوهلة الأولى، أو ربما هو مجرد إحدى الآثار الغريبة لظاهرة الديجافو (1).
يستوقفني شعور قوي هذه المرة تحت إيقاع تلك المقطوعة التى لا أصل إليها في العادة، ولكن أذني قد امتزجت بتلك القطعة البلاستيكية الصغيرة لدرجة أنني وصلت إلى آخر قائمتي الموسيقية.
تقول لي: "لا يوجد شيء يوثق اللحظات مثل الموسيقى"، تبتسم فتزيدها التجاعيد جمالاً.
أتذكر بيتنا القديم، عندما كانت تجلس فوق تلك الأريكة الخشبية، حيث تتوسّطها تلك الفتحة الكبيرة التي يعلوها المقبض الخشبي، فلا يمكن أن تراها إلا عندما تنظف خالاتي المنزل فيلزمهن ذلك بإزالة طبقة الإسفنج أعلاها.
أخبرتني حينها أنها تضع بها كل صورها ومذكراتها القديمة، وأنها لا تسمح لأي شخص أن يطلع عليها، ثم نظرت لي بعينين متسعتين وقالت: "حتى لو كان الشخص ده هو انت"! بعد وفاة جدي دار الشجار بين أفراد عائلتي، كانوا في غرفة الصالون، تلك الغرفة التي تشعر أنها المتحف الخاص بعائلتنا، تجد في أماكن مختلفة صوراً لخالاتي مع أزواجهن، تجد صورة جدي وجدتي بلا ألوان عندما كانا يشبهان أولادهم بشكل ما، وفي مكان لا يراه أحد تجد صورة مرسومة باليد لشخص لا أعرف عنه أي شيء سوى أنه يمتلك الاسم الثالث لعائلتي.
كانوا يجلسون حينها على الأثاث ذي المقابض الذهبية الذي لا يمكنك أن تراه سوى في المسلسلات القديمة، ويتشاجرون في تقسيم الإرث أو شيء من هذا القبيل، لقد كنت حاضراً ولكني لا أتذكر شيئًا، كنت محدقًا كعادتي في ورق الحائط المليء بأوراق الشجر، كنت أحب أن أرى بداخله تلك الوجوه المرعبة التي تكوّنها الأشكال المتكرّرة حيث يجمعها ذلك الرابط الغريب، لا أعلم لماذا لم يستطع أحد أن يراه غيري، ولماذا لم أرَ ذلك الرابط مرة أخرى بعد انتقالنا للبيت الجديد.
في يوم من الأيام بعدما مات كلبي الخاص، رأتني وأنا أحتضنه وسط نوبة من البكاء.
حينها مسحت بظهر يدها على وجنتي وابتسمت ثم غادرت في هدوء.
توفيت بعدها بشهر واحد.
لم أبك عليها قبل الآن.
ولكن تلك الدمعة سقطت على وجنتي بلا أدنى مقاومة مني بعد انتهاء المقطوعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): الديجافو (Deja Vu) كلمة فرنسية تعني "قد حدث من قبل"، وهي الإحساس بالألفة مع شيء يُفترض أنه ليس كذلك.