قصة قصيرة... زهايمر
محمد الهمامي (قاص تونسي)
... دفعت الباب وهي تلهث في ضيق، كانت تسحب الهواء كشفّاطة هرمة. بدت كمِدْخَنةٍ قديمة تسعل في فزع. استقبلها بابتسامة باردة وهو يغمغم: تفضّلي. ارتمت على المقعد قبالته وهي تمسح العرق بكلتا يديها. مرّت أناملها الخشنة فوق تجاعيد وجهها، لقد شاخت... لقد مرّ الزمن من هنا. منحها ابتسامة ثانية وهو يقول: دقيقة واحدة. أومأت له برأسها وهي تزفر في صعوبة. كان صدرها ينخفض ثمّ يرتفع كمطبّ هوائيّ. استرقت نظرة إليه، كان في العشرين من عمره أو يزيد. طويل القامة، حاسر الرأس، حليق الوجه غارت عيناه داخل جمجمته كحفرتين من ضباب. أغمضت عينيها وهي تستسلم لهواء المكيّف البارد.
سألني في لامبالاة: هل أوراقك كاملة؟ أجبت في انكسار: أظنّها كاملة. مدّ يده في هدوء فناولته مظروفاً أصفر. افتضّه في برود ثم أدخل يده في أحشائه قبل أن يقلب محتوياته وهو يمطّ شفتيه في ضجر. تنهّد في فتور وهو يهمهم: أين الصور؟ ازدردت لعابي وأنا أجول ببصري بين الأوراق المبعثرة أمامه. عاود السؤال في لهجة حادّة: قلت لك أين الصور؟ قلبتُ شفتي السفلى وأنا أغمغم: لقد نسيت فزميلك في الطابق السفلي... قاطعها في غلظة وهو يعيد الأوراق إلى المظروف قائلاً: أمر كهذا لا ينسى. انكمشت في مقعدها كسلحفاة عجوز وهي تقول في صوت أقرب إلى النحيب: لماذا لم تصرفوا لي معاش زوجي الشهر الماضي؟ شبك يديه فوق المكتب متمتماً في بذاءة: لأنّ أوراقك ناقصة. وثب حاجباها المتعبان إلى أعلى وهي تزمجر ساخطة: من أجل ثلاث صور حقيرة تقطعون معاش أرملة كبيرة... قاطعها في ضجر مغمغماً: إنّه القانون. زمّت شفتيها القديمتين في قهر ثمّ همهمت ساخرة: كلّ هذا من أجل حفنة دنانير لا تسدّ رمق فأر. ارتسمت على شفتيه ابتسامة فارغة كالحرباء، تشفّ عن دعوة ملحّة للمغادرة. نهضت في تثاقل وهي تفتح حقيبتها الجلدية الحزينة، سقطت منها بعض علب الأدوية فانهارت لتجمعها كناطحة سحاب أجهضت نوافذها.
فتحت عينيها، كان يعدّل آلة التصوير. أجلسها على كرسيّ أبيض أنيق قبالة مكتبه. اقترب منها في ثقة ثمّ دفعها إلى الوراء قليلاً، تراجع خطوتين إلى الوراء، ظلّ يرمقها في ثبات قبل أن يعاود الاقتراب منها ليرفع وجهها بلطف. اختفى وجهه وراء آلة التصوير الرمادية. قال في برود: كم صورة تريدين؟ أجابت في شحوب: ثلاث صور. أطلّ وجهه من خلف الكاميرا قائلاً في مرح: ابتسمي. وضغط زرّاً، ليخرج ضوء أبيض ملأ وجهها البعيد في شجن ...
لكنّها نسيت أن تبتسم ...