التنمية في عدالة توزيع الثروة
البيئة والتنمية - جايك رايس
كبير الباحثين العلميين سابقاً في وكالة مصايد الأسماك والمحيطات في كندا، والمحرر الرئيسي للفصل حول المحيطات في تقرير «توقعات البيئة العالمية» السادس، الذي يصدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة في 2019.
يقول جايك رايس في هذا المقال الذي كتبه خصيصاً لمجلة «البيئة والتنمية»، إن التنمية يجب أن تعالج توزيع الثروة، وليس مجرد زيادتها.
الهدفان الأولان للتنمية المستدامة لسنة 2030 هما القضاء على الفقر والجوع. ومع انهما هدفان قيّمان، إلا انهما ليسا بجديدين. فمنذ إنشاء الأمم المتحدة، كان القضاء على الفقر والجوع يحتل مكانة بارزة في أهداف مختلف وكالاتها.
مما لا شك فيه ان الثروة العالمية قد ازدادت. وعلى الرغم من أن الطريقة الأفضل لقياس الثروة هي موضع نقاش، فقد ارتفعت التقديرات العالمية للإنتاج المحلي الإجمالي من 41 تريليون دولار أميركي في عام 2001، إلى أكثر من 78 تريليون دولار في عام 2015، بنسبة تزيد عن 85 في المئة. ولكن هل قابل هذه الزيادة الكبيرة في الثروة انخفاض مماثل في الفقر؟ ان تعريفات الفقر هي أيضاً موضع نقاش أكبر بين الخبراء، حيث أن «الفقر» له بعد ثقافي كبير. ومع ذلك، وبصرف النظر عن التعريفات، فإن جزءاً كبيراً من تلك الزيادة في الثروة لم يساهم بتخفيف حدة الفقر. ففي عام 2001 كان أغنى 1 في المئة من الناس على هذا الكوكب يمتلكون ثلث الثروة العالمية، وفي عام 2015 كان 0.7 في المئة من الناس يملكون أكثر من 45 في المئة من الثروة.
هناك الكثير من الأدلة على أن برامج التنمية ساهمت في خلق الثروة وتحسين رفاهية الأشخاص الأكثر احتياجاً. ولكن مجرد السعي لتحقيق النمو الاقتصادي كهدف بحد ذاته لا يحقق القضاء على الفقر والجوع، بغض النظر عن اللون: «النمو الأخضر» الناتج عن الممارسات المستدامة بيئياً، «النمو الأزرق» الناتج عن أنشطة أكثر اقتصاداً في المحيطات، أو حتى «قوس قزح النمو» الناتج عن تحقيق قيمة أكبر من التنوع الثقافي للبشرية. ففي السنوات الخمس عشرة الماضية، ازدادت درجة تركيز الثروة العالمية في أيدي أغنى 1 في المئة بأكثر من الثلث، في حين أن نسبة الأشخاص الذين يعتبرون انهم يعيشون في فقر مدقع انخفضت بنسبة 10 في المئة فقط.
والأمر هو ليس فقط أن الأغنياء يصبحون أكثر ثراءً، بل ان كلا الطبقتين الغنية والوسطى تستهلكان المزيد. ومرة أخرى لا يوجد توافق في الآراء حول كيفية قياس «الاستهلاك»، لأنه يمكن التعبير عنه بطرق عديدة ومختلفة: التجارة والمقايضة، استهلاك السلع المادية والخبرات غير المادية، وما إلى ذلك. ولكن انتشار «أزمة الديون» في العالم المتقدم النمو، على الرغم من النمو في ناتجه المحلي الإجمالي، يشهد على أن الطبقة الوسطى لا تستطيع أن تستهلك أكثر فحسب، بل إنها تستهلك بشكل يزيد عن قدرتها على الدفع. إن اللعب بالإحصاءات الاقتصادية يمكن أن يغير هذه العلاقات قليلاً، ولكنه لن يغيّر الرسائل الأساسية: الأغنياء يستفيدون من النمو الاقتصادي أكثر بكثير من الفقراء، والطبقتان الغنية والوسطى هما اللتان تستهلكان موارد الأرض أكثر من أي وقت مضى.
يوجد جدال حول ما إذا كان نموذج اقتصادي للنمو الدائم ممكناً في عالم من الموارد المحدودة، ولكن ليس هناك نقاش حول وجود حد في وقت ما لكمية الاستهلاك التي يمكن دعمها. بالنسبة لأهداف التنمية المستدامة الأخيرة، فإن الجزء «المستدام» يحظى بأولوية لم يسبق لها مثيل. فليس هناك فقط أهداف في إطار معظم الغايات المراد تحقيقها، والتي تتعلق بالفقر والجوع والصحة والتعليم والرفاهية الاجتماعية، وتلك التي تهدف إلى تقييد بصمة الأنشطة الإنمائية على البيئة. فإن الهدفين 14 و 15 يتعلقان تحديداً بإبقاء محيطاتنا وأراضينا صحية، تُنتج المحاصيل التي سيتم استهلاكها باستخدام أساليب مسؤولة بيئياً، وقليلة الهدر. لكن السماح بالنمو من دون حدود لكيفية تركيز الثروة، وتسارع معدلات الاستهلاك للطبقات الغنية والوسطى مع عدم وجود حدود لمدى استهلاكها، تفتقد دوراً حاسماً في حل مشكلتي الفقر والجوع وتحقيق الاستدامة البيئية.
إذا كنا ملتزمين بالتخفيف من وطأة الفقر والجوع، هناك حاجة إلى زيادة الثروة، وكذلك زيادة الاستهلاك. ولكن الفقراء لديهم الحاجة الأكبر إلى زيادة الثروة، وحتى زيادة صغيرة في قدرتهم على استهلاك الأشياء الأساسية، مثل المزيد من الأطعمة المغذية والمأوى الأفضل والفرص التعليمية والثقافية التي تضيف إلى نوعية حياتهم. لذلك هناك حاجة إلى التنمية، كما الزيادة الناتجة في القدرة على الاستهلاك. ولكن يجب أن تكون هناك تغييرات في الحوار وفي مقاربة موضوع التنمية.
إلى حد ما، التغييرات الضرورية في الحوار والنهج تحدث بالفعل. وهناك تركيز متزايد على تحسين البنية التحتية المحلية لتقديم الرعاية الصحية وتوفير المياه النظيفة والصرف الصحي وما إلى ذلك. وهناك تركيز أكبر على الاستهلاك المسؤول، مثل الطاقة البديلة، والإنارة والتدفئة الأقل استهلاكاً، والتقليل من التعبئة والتغليف، واستخدام مصادر معتمدة من الناحية البيئية، إلخ. جميعها خطوات جيدة وبحاجة إلى أن تتوسع.
ولكن الوقت قد حان لمواجهة الحاجة إلى كبح الطلب الكلي على موارد الأرض، وتقليل التركيز المتزايد للثروة في أيدي قلة غنية على هذا الكوكب. ولن تكون هذه نقاشات سهلة. ولكن النتائج سهلة الوصف بما فيه الكفاية، ويمكن اختصارها في تحقيق المزيد من العدالة في توزيع الثروة وتركيز أقل في رأس هرم الثروة وانخفاض معدلات الاستهلاك التي تتجاوز ما هو مطلوب للصحة الجيدة والمجتمعات السليمة والآمنة. وتتمثل الصعوبات في إيجاد استراتيجيات ناجحة لتحقيقها. فكيف نحمل الأغنياء على الحد من احتياجاتهم؟ كيف يمكننا الحد من استهلاك أولئك الذين يبدون، في نظر غالبية الناس في جميع أنحاء العالم، أنهم يمتلكون كل ما يحتاجونه لنوعية حياة جيدة، ولكنهم يريدون المزيد من كل شيء على ما يبدو.
يمكننا أن نتعلم من التاريخ أن الضوابط من أعلى إلى أسفل لا تعمل على المدى المتوسط، فهي تؤدي إلى الشمولية والقمع. والثورات من الأسفل إلى أعلى لا تُفيد، فهي تسبب الاضطرابات الاجتماعية وتدمير الممتلكات والحياة. يجب أن يكون الناس من أصحاب الثروات والقدرة الأكبر على الاستهلاك جزءاً من القرارات الرامية إلى دعم الإنصاف والحد من الاستهلاك، ليتسنى إحراز تقدم دائم بشأن الجوع والفقر. وهذا يعني ضرورة الحوار بين الشعوب المختلفة في التاريخ والثقافات. فمن خلال ذلك الحوار يتم بناء على احترام أكبر للاختلافات، ومن خلال الاحترام الأكبر يتم الوصول إلى اهتمام حقيقي بالذين لا يزالون يعانون من الفقر والجوع. فذلك الاهتمام الحقيقي هو الذي في نهاية المطاف قد يحمل الأكثر حظاً على الأرض على ألا يقتصر اهتمامهم على مجرد إدراج القليل من الأعمال الخيرية في ميزانياتهم، بل أن يتخذوا بالفعل خيارات بشأن أنماط استهلاكهم ورغبتهم ، بما يسمح للفقراء بأن يشاركوا في التنمية حقاً.