السلاحف البحرية بين الإنقراض والإنقاذ
البيئة والتنمية - محمد سلمان المندعي
في الميثولوجيا القديمة، ترمز السلحفاة لطول العمر والخلود، وتعد مسكناً موقتاً للأرواح التي تشق طريقها عبر سلسلة من الحيوات نحو النيرفانا. فوفقاً للأساطير الهندوسية، يعتقد أن الإله الهندي فيشنو تجسد في شكل سلحفاة تحمل العالم على ظهرها.
تعد السلاحف أقدم الكائنات الحية المعاصرة، ويعود أول ظهور لها إلى العصر الترياسي من الحقبة المتوسطة (250 - 200 مليون سنة مضت). وتقسم السلاحف إلى سلاحف برية، وأخرى مائية تعيش أما في البحار والمحيطات أو المياة العذبة. فقد تكيفت للمعيشة في البيئات المائية حيث تحورت أجسامها لملاءمة نمط الحياة في تلك البيئات.
وتتقاسم كل السلاحف البحرية امتلاكها صدفة قوية لحمايتها من الأعداء، وأطرافها الأمامية والخلفية متحورة إلى ما يشبه المجاديف تساعدها على السباحة تحت الماء. ومن ناحية أخرى، تختلف هذه السلاحف مع مثيلاتها التي تعيش على اليابسة في انها لا تستطيع سحب اطرافها ورأسها إلى داخل درعها.
وعائلة السلاحف البحرية لا تضم سوى سبعة اصناف، معروفة في جميع انحاء العالم. وتعد السلحفاة الجلدية الظهر أضخم هذه السلاحف على الإطلاق ورابع أكبر الزواحف الموجودة في العالم، بعد ثلاث انواع من التماسيح. ويبلغ طولها نحو ستة أقدام ووزنها حوالى كيلوغرام، كما انها أسرعها بمعدل 35 كيلومتر في الساعة، وتغوص إلى عمق1280 متر تحت الماء. أما أصغر هذه الأسرة فهي سلحفاة ريدلي الزيتونية، وسميت بذلك نسبة إلى لون الدرقة - أعلى الصدفة - الاخضر الزيتوني، ويبلغ طولها حوالى سنتيمر ووزنها 80 كيلوغرام ويمكنها الغوص حتى 150 متراً. والأصناف الخمسة الباقية هي: السلحفاة الخضراء، وهي كبيرة الحجم، وقد اشتق اسمها من اللون الاخضر الذي يغطي صدفتها المحدبة، ويتوقع لهذا النوع أن يعيش 80 سنة. الصنف الثاني السلحفاة الصقرية المنقار وهي من الانواع المهددة بالإنقراض وتمتاز عن مثيلاتها بمقدمة رأسها المحدبة، ويمكن ان تبقى حية مدة 50 سنة. أما النوع الثالث فهو السلحفاة المفلطحة الظهر، وسميت بهذا الاسم نظراً لصدفتها المفلطحة الشكل، وهي أوسترالية الأصل، وتتميز بلون أخضر غامق. والنمط قبل الأخير هو السلحفاة الضخمة الراس وأطلق عليها هذا الاسم لكبر حجم جمجمتها، وتعد أكثر السلاحف البحرية دراسة وبحثاً على مستوى العالم. وأخيراً سلحفاة كيمبس ريدلي، وهذه التسمية نسبة إلى العالم الأميركي ريتشارد كمب الذي اهتم بها كثيراً وساعد في اكتشافها، وتعد من أندر السلاحف البحرية إطلاقاً.
بصفة عامة، فإن خمس أنواع من السلاحف البحرية تتواجد في جميع انحاء العالم (وخاصة في المياة الاستوائية وشبه الاستوائية)، بينما يعيش نوعان في نطاقات محددة، وهما سلحفاة كمب ريدلي التي توجد بشكل رئيسي في خليج المكسيك، والسلحفاة المسطحة الظهر التي تعيش في شمال أوستراليا وجنوب بابواغينيا.
مثل البشر، فإن السلاحف تستغرق عدة سنوات لتصبح ناضجة للتناسل. وقد تأخذ بعض الأنواع فترة تصل إلى 30 سنة، قبل ان تكون الإناث قادرة على وضع البيض. ويتم الاخصاب داخلياً، حيث يحدث التزاوج عند التقاء الذكور مع الإناث في الماء، وبعدها تهاجر الأنثى مسافات شاسعة تصل إلى الآف الكيلومترات بين مناطق التغذية ومناطق وضع البيض (التعشيش). أما الذكور فانها لا تترك البحر. فالسلاحف الجلدية الظهر والضخمة الرأس، مثلاً، تسافر عبر المحيط الهادئ، وبعد أن تصل إلى الشاطئ نفسه أو الجزيرة حيث ولدت، مثل أسماك السلمون، تقوم الإناث ليلاً بحفر حفرة كبيرة قطرها 1.5 متر، بواسطة الزعانف الخلفية، وتعمل في منتصفها حفرة اسطوانية الشكل وتضع البيض الذي يقدر في الغالب بنحو خمسة أو ستة حفنات في كل حفنة مئة بيضة، ثم تشرع بردم الحفرة بالتراب. وتسمى هذه العملية بالتعشيش. وتبيض السلاحف البحرية مرتين أو أكثر في موسم التكاثر، وتبلغ الفترة الفاصلة بين فترات وضع البيض أسبوعين، وتتراوح فترة حضانة البيض بين 40 - 70 يوماً. ويعتمد التفقيس، الذي يحدث عادة ليلاً، على درجة الحرارة. وتتجه الصغار في الظلام نحو البحر حيث تعتمد على نفسها بعيداً عن الأمهات. وهناك أنواع أخرى تبقى قريبة من موطنها مثل السلحفاة المسطحة الظهر، التي لا تتحرك خارج الجرف القاري للمياة الأوسترالية الشمالية.
لأكثر من 100 مليون سنة، غطت السلاحف البحرية مسافات شاسعة عبر المحيطات في العالم، وأدت دوراً حيوياً وتكاملياً في المحافظة على النظم الإيكولوجية البحرية الساحلية. وعلى سبيل المثال، يعتقد العلماء أن السلاحف الصقرية المنقار تحافظ على صحة الشعاب المرجانية بواسطة الرعي على الاسفنج، الذي إذا ترك ينمو طليقاً فإنه يطغى ويغطي المرجان ويقتله. وبسبب هذا يعتقد الباحثون أن تناقص عدد السلاحف الصقرية المنقار قد يكون عاملاً في عدم قدرة الشعاب المرجانية على مقاومة الضغوط المتزايدة من التلوث، وفرط نمو الطحالب، والصيد الجائر، وتغير المناخ.
وسُجلت الأنواع السبعة في الملحق الاول لاتفاقية التجارة الدولية للحيوانات والنباتات المهددة بالانقراض CITES، كما صنف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة «IUCN» ثلاثة أنواع مهددة بالانقراض وثلاثة أصناف معرضة للخطر. وخلال المئتي سنة الماضية، هددت الأنشطة البشرية بقاء هذه الكائنات، سواء بصورة مباشرة (الصيد المتعمد والعرضي وجمع البيض والتلوث) أو بشكل غير مباشر(تدمير موائل التعشيش والعلف).
فالصيد العرضي يشكل أكبر تهديد للسلاحف البحرية والعديد من الأنواع الأخرى في جميع انحاء العالم. ويتم التخلص من نحو 40 في المئة من كل الحيوانات المصادة منها كنفاية، مثل الثدييات البحرية والسلاحف البحرية والطيور البحرية، التي ترمى عادة وتموت. فالشباك الخيشومية وشباك الجر ومصايد الأسماك بالخيوط الصنارية الطويلةـ التي تمتد لعشرات الأميال، تعدّ من الأسباب الرئيسية لنفوق السلاحف البحرية. إذ ان هذة الشباك تلتف وتقيد حركتها فلا تستطيع السباحة، فتغرق أو تنجذب إلى الطعم وتعلق.
على الرغم من التشريعات التي تحمي السلاحف البحرية في معظم البلدان، فإن التجارة غير الشرعية لمنتجاتها (اللحم، البيض، الأصداف، الجلد) ما زالت مستمرة، وتعد من البواعث الأساسية للانخفاض الحاد في أعدادها. ويقدر الباحثون أنه في كل سنة يتم اصطياد 30000 سلحفاة خضراء في باها كاليفورنيا، وأكثر من 50000 سلحفاة بحرية في جنوب شرق آسيا وجنوب المحيط الهادئ. ويتم اصطياد السلحفاة الخضراء لِلحمها وبيضها ومادة هلامية دهنية لونها أخضر تعد العنصر الأساسي في حساء السلاحف، توجد في النصف السفلي من الدرع. وفي ستينات القرن الماضي، تم ذبح أكثر من مليون سلحفاة من نوع ريدلي الزيتونية على ساحل المكسيك المطل على المحيط الهادئ، من أجل جلدها المستخدم في صناعة الجلود المدبوغة. وتلقى صدفة السلحفاة الصقرية المنقار اهتماماً كبيراً لدخولها في صناعة المجوهرات وأغراض الزينة.
تؤدي التنمية الساحلية غير المنضبطة إلى فقدان وتدهور موائل تعشيش السلاحف البحرية من خلال تغير نمط الشاطئ وتدميره. وتشمل هذة التنمية بناء المنازل والفنادق والمطاعم والأرصفة البحرية، غالباً لأهداف سياحية.
ومن ناحية أخرى تدمر مواطن التغذية مثل الشعاب المرجانية والحشائش البحرية بشكل مستمر من جراء الترسيب والتفريغ الأرضي للأسمدة والمواد الكيميائية من المزارع والمصانع، وكذلك بسبب تقنيات الصيد المدمرة وتغير المناخ.
وتسبب الأكياس البلاستيكية الاختناق للسلاحف البحرية حتى الوفاة عند التهامها، ظناً منها أنها قناديل البحر، كما تلتف معدات الصيد المهملة والملقاة في البحار حول التِرْسات وتقيد حركتها وتصبح غير قادرة على السباحة والتغذية. كما تعيق النفايات على الشواطئ صغار السلاحف وتمنعها من الوصول إلى المحيط، وتسمم تسربات النفط هذه الكائنات في كل الأعمار.
يعتمد تحديد الجنس في السلاحف البحرية على درجة حرارة العش. فإذا كانت أقل من 30 درجة مئوية يفقس عادة ذكر، وعندما تكون أعلى تنتج أنثى. وهذا يعني إن ارتفاع درجة الحرارة يغير نسبة الإناث والذكور، وقد ينتج عنه عدم استقرار في مجامعيها، كما يساهم زيادة الاحترار الكوني في رفع مستوى البحر من ذوبان الجليد القطبي، وبالتالي اختفاء الشواطئ وموائل التعشيش، ناهيك عن العواصف الشديدة والمتكررة التي ينتج عنها تآكل وغمر السواحل بالمياه.
هناك جهود مُضْنِية تبذل من المنظمات المعنية بحماية الحيوانات من المخاطر والاتجار غير القانوني. يعمل كل من الصندوق العالمي للطبيعة «WWF» ومنظمة ترافيك «TRAFFIC» على وضع برامج تتضمن أهدافاً للحد من المخاطر التي تهدد بقاء السلاحف البحرية وهي: الحد من فقدان وتدمير موائل هذه الحيوانات والحد كذلك من الاستخدام السلبي للصيد العرضي ووقف الاستخدام غير المستدام والتجارة غير الشرعية.
للوصول إلى هذه الأهداف يعمل الصندوق العالمي للطبيعة على إنشاء وتعزيز المناطق المحمية حول شواطئ التعشيش ووضع حراسة عليها، لضمان أن يكون للسلاحف البحرية عش آمن وغذاء، وأن تهاجر بحرية. كما يعمل على توفير التمويل اللازم لحمايتها وتشجيع الحكومات على دعم التشريعات المتعلقة بالمحافظة على هذه المخلوقات، وتعزيز الاتفاقات الإقليمية والدولية المتعلقة بهذا الشأن. وأيضاً رفع مستوى الوعي وتثقيف المجتمعات المحلية وتشجيع السياحة البيئية في مواقع الاعشاش، بحيث يصبح السكان مشاركين في الحماية، وخلق مصادر رزق بديلة حتى لا يعتمد هؤلاء السكان على هذه الحيوانات ومنتجاتها كمصدر للدخل، ولا بد من دعم البرامج التي تعزز قيمتها الحية. وتتضمن البرامج الضغط من أجل ممارسات صيد صديقة للسلاحف البحرية، مثل استخدام الخطاطيف الدائرية في الشباك الصنارية الطويلة، وكذلك استعمال أجهزة استبعاد السلاحف في الشباك. كما يتتبع الصندوق العالمي حركة هذه الأحياء عبر الأقمار الاصطناعية، للمساعدة في منع التداخل بين المصايد وتجمعاتها، والعمل مع الصيادين لعدم وقوعها في شباك الصيد. وأخيراً تخفيض استخدام الأكياس البلاستيكية وإعادة تدويرها، وصولاً إلى حظرها وتشجيع استعمال الأكياس القماشية والمشاركة في تنظيف الشواطئ.