العدد 5348 بتاريخ 28-04-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... ثلاث ورقات

سامي محمد عبدالفتاح - قاص مصري

كان أسهل قرار اتخذه في حياته، قراره إحراق الورقة الثالثة. بعدما كان استحالة التفكير في إحراقها بمثابة استحالة التفكير في إحراق كتاب مقدس. انتابه ألم شديد حين أحرق الورقة الأولى، وألم أشد حين أحرق الورقة الثانية. على رغم أنهما لم تكونان بأهمية الورقة الثالثة والتي كان يحرقها وينتشي برائحة دخانها الذي تخلّل غرفته.

ولا يدري كيف كانت الأمور ستنتهي لولا ما حدث صباح ذلك اليوم. صوت احتكاك جانب السيارة التي كان يقودها بجانب سيارة أخرى كان صاحبها يحاول تجاوزه، أفزعه. وقبل أن يفكر بالنزول. كان قد قفز من السيارة الأخرى شاب يرتدي بدلة أنيقة وسأله "هل أنت بخير" وما كاد يكمل ويقول أنا... حتى كان قد نزل، وقد لف ذراعيه حول رقبة الشاب وأمسكه من ياقة البدلة. وصرخ بأعلى صوته وهما وسط حلقة من الناس. "أنت المخطئ". وأقسم أغلظ الأيمان أنه لن يتركه حتى يصلح السيارة. "أنا المخطئ وسأدفع تكاليف إصلاحها. رقبتي يا أحمد". حينئذ ترك رقبته ليس لأنه وعده بدفع التكاليف. بدأ يحك ذقنه ويتفرس في ملامح الشاب، واستغرب كيف عرف اسمه وهو لا يعرفه!، وفكر هنيهة ثم نطق "حسن ت..." ثم سكت. فتبسم الشاب وقال: "أكمل يا أحمد، حسن ترمات".

ولو كان أحد قد أخبره منذ خمس سنوات فقط أنه سيقف يوماً أمام حسن مطأطئ الرأس خجلاً وعينيه إلى الأرض، لو أن أحداً قد أخبره أن هذا كله سيحدث له وأنه سيصبح سائقاً على عربة ربع نقل لكان اتهمه بالجنون، وكيف لا يتهمه! وهو الأول على الدفعة، وكان الأول طوال الدراسة.

لابد أنه سيصبح طبيباً. -لا- بل مهندسا هكذا كان اختلاف أمه وأبيه حين يخططان لمستقبله. وبعد الثانوية العامة دخل كلية التجارة ولم تكن درجاته هي السبب، فإن وضعنا في الاعتبار الدرجات فقد كان باستطاعته دخول الهندسة أو الطب، ولكنه كان يحب الحسابات واختار التجارة والتي كانت سبب معرفته، بحسن الذي كان قد دخل الكلية قبله بعام، والذي تخرج وحصل على الشهادة في الدور الثاني بتقدير ليس أعلى من مقبول بعده بثلاثة أعوام.

كان أحمد قد حصل على الشهادة بتقدير جيد جداً مع مرتبة الشرف. وبعد أن لبى نداء الوطن (قضاء فترة التجنيد)، بدأ رحلة البحث عن فرصة عمل في مجاله. ومرت السنة الأولى ولم يجد. وبداية الثانية أحرق الورقة التي كان دوّن فيها أسماء كتب الكلية التي ربما يحتاجها مرة أخرى ولم يكتفِ بذلك وأحرق الكتب. وبداية الثالثة أشعل النار في الورقة التي كان دوّن فيها تواريخ حصوله على شهادات التقدير وأحرق الشهادات بها. وبداية الرابعة أدرك أن الأيام تتسرب من بين يديه وأن عليه أن يعمل، أي عمل.

بعد أن وفى حسن بوعده ودفع التكاليف كاملة. وبعد أن عرف منه أنه قد حصل على وظيفة بالبنك الذي يعمل فيه عمه بمجرد تخرجه. تمنى لو أن ما هو فيه الأن حلم وبمجرد أن يستيقظ ينتهي، أو أن تنشق الأرض وتبتلعه ولا يظل واقفاً أمام حسن هكذا.

رجع إلى البيت. أمسك الورقة الثالثة، وأمعن النظر بها، أدرك أنها مجرد ورقة قد كتبت فيها اسمه وتقديره وسنة تخرجه، بعدما كانت تساوي يوماً ما، رغد الحياة الذي دائماً ما كان يحلم به. ترنّح وانتفض في غرفته. تأرجحت صورته المعلقة عليها بدبوس وأدرك أنها أبداً لم تكن مقدسة إلا بمخيلته، ولن يصيبه أي أذى إن أشعل النار فيها.



أضف تعليق