قصة قصيرة... أنوثة مؤجَّلة
عبدالعزيز زيوان - قاص مغربي
أدركت منذ طفولتها، وهي تقف أمام المرآة، أن الجمال خذلها. كانت تحس في انجذاب الأولاد إلى زميلاتها وإعراضهم عنها ألماً لا يضمده سوى نبوغها الدراسي.
كبرت "جميلة" وكبر فيها الشعور المرير بالنقص. لم تكن لتسلم من مكر قريناتها المتربصات بها لنضحها بين الفينة والأخرى بتعليق ساخر عن تنافر الاسم والرسم. وكان إحرازهن علامات مخجلة في المدرسة فرصتها الوحيدة للتشفِّي منهن، لكنها كانت تؤثر ألف مرة الاتشاح بالبلادة على أن توصم بالقبيحة. تبينت، مع مرور الأيام، أن جمال المرأة رأسمالها، وفهمت أن مصير الحسان يصنعه الرجال، ومصير الذميمات نتاج كدحهن. اجتهدت لتنحت في الصخر مستقبلها، ونذرت حياتها للتعلم حتى نالت شهادة الماجستير. أصبحت موظفة في مديرية الضرائب. كان تميزها محط تقدير الجميع، لكن زميلاتها كن يتعمدن رشقها بتلميحات مغرضة تذكرها على الدوام بنقطة ضعفها. كان مجرد وقوف الرجال حذاءها يشعرها بسعادة غامرة سرعان ما تنحسر تحت ثقل نظرات الخبيثات وتغامزهن. جفاها الرجال خوفاً من النميمة، وقهرتها النساء المتبجحات بعلاقاتهن الغرامية، اضطربت، ومرضت، واغتمت طيلة أسبوع كامل.
أرقت، ذات ليلة، وشرد بها الفكر بعيداً، فانبرت تراود شيطان خلوتها في حيلة تتترّس بها من كيد عدواتها، وما هي إلا هنيهة حتى أشرق وجهها بابتسامة ماكرة.
زارت، عصر اليوم الموالي، بنت عمها وبئر أسرارها، انفردت بها، وقصت عليها معاناتها، وأفضت إليها بما تنوي الإقدام عليه. غادرت بيت عمها وكأنها ولدت من جديد.
استغربت الزميلات سعادتها الغامرة، صباح يوم الاثنين، وسألنها السبب فامتنعت عن الإجابة لإثارتهن، ومضت تردد بتغنج لازمة أغنية رومانسية لفيروز. ألححن، فأخبرتهن أن الحظ تبسم لها أخيراً، وأن رجلاً وسيماً ظل يلاحقها بعد خروجها من العمل، وأصر على محادثتها، ولم يبارحها حتى أعطته رقم هاتفها. تبادلن نظرات الخبث وكأنهن لم يصدقنها، أرتهن في الحال رسائله القصيرة، فذهلن من عبارات الإطراء وكلمات الغزل الرقيقة. لكن سرعان ما ادّعين أنه لن يكون إلا زير نساء وأن رغبته فيها محض نزوة جنسية. تناهت مزاعمهن إلى علمها فوجدت فيها حجة كافية لرميهن بالحسد. كانت تمر على مكاتبهن تباعاً لاطلاعهن على جديد رسائل الشوق التي كانت تصلها مختومة بعبارة "صريع هواك". نجحت في صرفهن عنها إلى الأبد.
انقلب انكسارهن فجأة إلى رغبة في الانتقام. وماذا لو اتصلن "بالرجل الوسيم" خفية، وافترين على "جميلة"! لكن هيهات أن يصلن إليه وقد ظلت حريصة على إخفاء رقم هاتفه عنهن وجعل هاتفها بعيدا عن متناولهن!
تحلقن حول "جميلة" وهي تقص عليهن منتشية تفاصيل سهرة السبت رفقة "وسيمها"، فاجأتهن المديرة، واستشاطت غضباً، اتهمتهن بالتقصير والاجتماع على سفاسف الأمور. هرعت الزميلات إلى مكاتبهن، وتابعن بتشف مرور المديرة تتبعها "الذميمة" خجلى. وما إن ابتلعهما منعرج السلم صعوداً إلى الطابق الثاني، حتى أسرعن إلى المكتب حيث كان الهاتف يرن دون توقف. تسابقن إليه وأخذنه بتوتر، أجحظن أعينهن وإذا باسم "الرجل الوسيم" يعلو الشاشة الزرقاء. شغلن مكبر الصوت، وحبسن أنفاسهن، ثم ضغطن على زر الاستقبال، وإذا بصوت امرأة يملأ المكان بنبرة مازحة:
- اسمعي، أيتها العانس، لقد سئمت هذه المسرحية، ابحثي لك عن رجل حقيقي وأريحيني.