قصة قصيرة... الصياد
مروان الجوبعي - قاص يمني
بعد أن وصلتُ لزاويتي المفضلة على البحر، جلستُ أتأمّل من حولي وإذ برجلٍ أشْيبُ الرأس، حفر العمر أخاديد في وجنتيه وبالكاد يقف على قدميه ليرمي صنارته في البحر مكابراً يقاوم رعشة يديه دون استسلام للفشل... يكرر المحاولات الواحدة تلو الأخرى إلى إن يتأكد له إنها قد غاصت بالأعماق ينتظرُ بعدها ماذا سيجلب له الحظ من البحر؟
كلما اهتز الخيط يسحبه ببطء... يحدوه أمل أن يجد سمكة قد تعلقت بصنارته على سبيل الصدفة ليشعر انه مازال قادراً على الانتصار وتحقيق مزيد من النجاحات بهذه لحياة... ربما هناك امرأة تنتظر عودته يريد أن يفاجئها عند قدومه إليها أنه مازال ذلك الشاب القادر على اصطياد الأسماك كما كان يفعل أمامها بشبابه عندما كانت ترافقه، فالرجل يفضل الموت قبل أن تراه حبيبته ضعيفاً لا يقدر على فعل شيء... بودّه أن يظل في نظرها إلى آخر لحظات حياته ذلك الفارس الذي لا يشق له غبار!
بإصرار لا يخترقهُ اليأس كان كلما قذف صنارته عاد ليجلس على كرسيه الذي نصبه بالقرب من الصنارةِ المثبتةِ على قاعدةٍ حديديةٍ مغروسةٍ في الرمل... كان قبلها قد أخرج من سيارته الواقفة خلف مكان جلوسه بالضبط أبريق شاي ووعاء حديدياً يشعل النار فيه، كيس فحم، علبة مولع فحم، وعلباً فيها التحضيرات اللازمة... وضع كل شيء وبعد أن نضج صب لهُ كأساً من الشاي المعتق على الجمر وأخذ يرتشفه بمتعة وكأنه يرتشف نبيذاً من العنب الأحمر... يرتشفه وعيناه تتأملان البحر والحلم يراوده، أن تتحقق أمنيته التي خرج من أجلها... حلمه البسيط لا يتعدى سمكة واحدة تشبع غروره وتشعره بنشوة الانتصار الذي افتقد لذته منذ زمن بعيد... مازال يعتقد نفسه ذلك الشاب القادر على تحقيق أحلامه ولم يستسلم بعد .
اهتز الخيط مرة أخرى فاعتقد أن الله قد أرسل له سمكة لتتعلق بصنارته كهدية سماوية لإنقاذ كبريائه الذي شعر أنه على وشك السقوط... سحب الخيط ببطء شديد إلى أن بلغ نهايته ولم يجد فيه شيئاً... رفع الصنارة من جديد وأعدّ الطُعم واستجمع طاقته ثم قذفها بكل قوته إلى عمق البحر ومال معها إلى أن استقرت في الأعماق ثم عاد ليثبّتها بالقاعدة الحديدية وجلس على كرسيه يرتشف ما تبقى من الشاي واضعاً رجْلاً على الأخرى يراقب الخيط بشوق كبير وينتظر!
بينما كان مستغرقا يفكّر بما يحملهُ له الخيط والصنارة من أخبار وعيناه مثبتتان باتجاههما قطعت عنه الرؤية امرأة عند مرورها بينه وبين الخيط... امرأة شابة ممشوقة متناسقة الجسد لها شفتان متكورتان كوردة يمتطيها أنفٌ رشيق ويبدو على جانبيه رمشين كثيفين يرفرفان كجناحي فراشة وفوقهما حاجبان مقوسان بعناية وكأنهما من صنع نحات فائق البراعة والإبداع... وقفت لبرهةٍ تنظر إلى الرجل الذي تعتقده لا يفكّر بالنساء أبداً بل يفكّر بما تبقى له من العمر... حينها شعر الرجل بنشوةٍ وأخذ يرتّب شعره الأبيض، مبتسماً ينظر إليها وكأنه شابٌ لم يتجاوز العشرين من العمر ظناً منه أنها قد أعجبت به، لكنّها صدمته بتجاهلها لتلك النظرات، وابتسامتها الساخرة التي قضت على كل آماله بالحياة، ليلملم صنارته وأشياءه عائداً أدراجه خالي الوفاض منكسراً يحدّث نفسه: "بإمكانك أن تقاوم وتصمد أمام أي شيء بهذه الحياة دون انكسار لو كلفك ذلك أن تقاوم العمر بأكمله إلا نظرات امرأة ساخرة يمكنها إن تهزمك في لحظةٍ واحدة".