قصة قصيرة... "لستُ أنا"
عصمت يوسف - قاصة بحرينية
العبارة التي لطالما ترقبتُها من فمي، كيف؟ لا أعلم، ربما بِمُعجزة، لكنني أعلم إنني كنت بأمَسِ الحاجةِ لها لتبرير الاتهامات التي كانت تقذُفني ظلماً، الظُلم! كان أول شيءٍ سمعتهُ بلا صوت، ولم أقدر على مواجهته لأنني افتقرتُ أيضاً للصوت، مثلاً كاتهامي بسرقةِ يقطينة العم الأشمط، لستُ أنا، حقاً لم أكن، والكثير من المواقف التي تسببت في حبسي بقيود اليأس التي كانت تخبرني بألاّ جدوى مني، "الكذب" ثاني كلمة قرأتها دون علم، قرأتُها في عين أمي وأصابعها التي كانت تروي لي قصصاً خرافية يقال فيها بأنني أنا البطل الخارق الذي هبطَ الأرض دون بُكاء، سحقاً! إنها تكذِب، متى كان الضعفُ قوة، متى؟ ربما في تلك الأُمسية التي قابلت فيها فتاة أحلامي، لا أعلم ما إن كان القدر يسخر منا أم يشفق علينا ليطلق علينا أسماء معاكسة لحالتنا "نورسين" ضوء القمر، وأنا "ماكس" العظيم! ضحك! لكن حقاً شعرت بالقوة في ضعفي حينها، فأنا كنتُ فتى الانقاذ خاصتها، أُنقذها من سياج حظيرة قريتنا، ومن تدرج الهضبات، لكن لسوء الحظ أخفقتُ في مهمةِ إنقاذها من التعثر في حبي، ومن والدها الذي ثارت فوهات براكين غضبه عندما علمَ بأمرِ علاقتنا، نفاني من القرية كونهُ حاكمها، عندما عَلِمت والدتي اخترقت النوبةُ قلبها، لا أعلم أيُ حفرةٍ تبنت جسدها، منعوني! حينها صرختُ دمعاً وهاجرت من قريتي قسراً، انتقلت الى مدينةٍ جهلتُ فيها نفسي، بحثتُ عن أشجارٍ تضمُ هيعتي، لكن لم أجد سوى جدراناً تبصقني ودراهمَ تقذُفني، بقيتُ على هذه الحال لأيام حتى تقلصَ لحمي وأصبحَ فِراشاً للذُباب، الى أن سقط كتابٌ سميك على دماغي، فقدت وعيي لا أعلم ما حدث سوى إنني فتحتُ عيناي وأنا مستلقٍ على وسادةٍ تُدلِّكُ رأسي، وغطاء يدغدِغُ جسدي، وفتيات يرتدين الأبيض حولي، كأنهن ملائِكة، تتوسطهن سيدةٌ أنيقة تدعى "إلين" أقلُ جمالاً من نورسين بقليل، كانت تعتني بي كثيراً، اصطحبتني إلى مركزِ الكفالة الأرطفونية، قضيتُ ثمانيةَ أعوامٍ في ذلك المركز، بعد ذلك شجعتني إلين على الكتابة ورسمَت مستقبلاً ساحِراً في مخيلتي، أربعة أعوام وانا أغرق بين الحروف وأطفو بين الكلمات، لأُكملَ كتابي "لستُ أنا"، بعد ذلك قررت العودة الى قريتي التي غادرتُها وأنا شاب الثامنة عشرة وعدتُ إليها رجلَ الثلاثين، أول مكانٍ قادتني إليها قدماي هي المقبرة، تجولت بين القبور كالمَمْسُوس، اغتلتُ تراب الموتى، بدأت أستنشق القبور، رائحتها تقودُني إليها، وصلتُ الى مسكن جسدِها، رميت نفسي عليها باكياً، تحدثتُ إليها لساعاتٍ طويلة، ووضعتُ عند قبرِها كتابي ورسالة، كتبتُ فيها إن الكذب الذي كنتُ أراهُ في عينها لم يكن إلا بريقَ صِدق، فأنا حقاً بطلٌ خارق، بعد ذلك ذهبت الى منزل العم الأشمط، تركت لهُ كتابي وأرفقتُ معه يقطينة، ومن ثم ذهبتُ الى حبي الذي أودعتهُ ثلاثةَ عشر عاماً، طرقتُ باب منزلها، ففتح لي غلامٌ وسيم، من ثم رأيتُ نورسين قادمين، غُرِقت عيني في دمعها، فاقتَرَبت مني بِبُطء، استنشقتني وابتعدت فظهرَ من ورائها رجل! حينها انسحبتُ من تلكَ المواجهة وعلمتُ إنني لستُ أنا.