العدد 5336 بتاريخ 16-04-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... سائق النقل

محمود خالد عبدالجواد - قاص مصري

أطبق أنفه فوق مسحة من مسحوق أبيض وضعه فوق ظهر إبهامه واستنشق بعنف قطع صوته أصداء السكون حوله، خدعوه فقالوا بالقليل تقهر نعاس الطريق ليلًا، حتى صار جسده ميدانًا لثورة بين خلاياه، لا يخمدها سوى ذلك المسحوق.

أعاد رأسه للوراء قليلًا، وتلاحمت ذرات المسحوق مع جزيئات عقله، ثم صعد درجتين حتى استقر على كرسي السائق، أدار الوقود ثم انطلق يشق الطريق حتى ابتلعه الظلام.

إذا سمعت عن قوانين الطبيعة، فلا تتخذه مثلًا، رجلًا ثلاثينيًا لا يعرف في القيادة سوى "دواسة البنزين" التي تحيل سيارته النقل الكبيرة، إلى شبح يختزل طريقاً طويلاً ضيقاً بين جبلين، كل فرق منهما كالطود العظيم.

طريق لا يحتمل سوى سيارة واحدة، يعرف الضياء ليلًا من ضوء القمر ومصابيح السيارات حتى يقدم مسئولوه على تركيب أعمدة إنارة.
أشعل السائق مذياع السيارة، التي تحمل في ظهرها مجموعة من الأخشاب وعلبة دهان أبيض لم تُغلق بإحكام، وكعادته يُعلي صوت المذياع حتى مستواه الأخير، ويتمايل برأسه يمينًا ويسارًا، رغم أنه لا يبالي بكلمات الأغنية التي يبلغ ضجيجها عنان السماء.

وفجأة، اصطدمت إطارات السيارة بمطب اصطناعي يسبق منطقة إصلاح منتصف الطريق بمئتي متر، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها السائق طريق "دواسة" كبح جماح السيارة، فاكتفى برؤية هذا الهيكل المعدني الكبير يعلو ويهبط مرتين، حتى استعاد توازنه في اللحظة المناسبة، ولكنه لم يدرِ بانقلاب علبة الدهان، وكأنها جسد خلد للنوم من ظلام الليل، تاركة سائلها يسيل على الطريق.

(…) بدأ النعاس يتسلل إلى جفني السائق، فاكفهر وجهه، وانفرجت شفتاه بألوان من السباب على بائع المسحوق الذي خدعه، دونما يدري أن ذرات جسده اعتادت على المسحوق، وصار لا يقاتل نعاس الليل، بل يكتفي بتسكين انتفاضة خلاياه.

انحرفت السيارة يمينًا ويسارًا، وعلبة الدهان تترك سائلها الأبيض يرسم علامات جديدة في الطريق.

وما لبث السائق الذي انشغل بفرك عينيه لاستعادة صورتها دون تشويش تركه أثر النعاس، حتى فوجئ بسيارته تنحرف يمينًا بقوة، قبل أن تعانق الجبل، وتفرغ معها علبة الدهان تمامًا.

(…) وأشرقت الشمس على حادثة مروعة احتلت عناوين الصحف والبرامج.
"اصطدام عشرات السيارات على طريق سفر".
وكذلك هو الحال دومًا لمن يسير في الظلام بلا هداية.



أضف تعليق



التعليقات 1
زائر 2 | 12:49 م قصة رائعة وكلماتها قوية .. برافو رد على تعليق