قصة قصيرة... شرفة الزمن الآخر
أحـمـد الزنـاتي محمد - قاص مصري
كان عُمري سبعَ سنواتٍ حين تركتُ الشرفة. جاءتني أمِّي في يومٍ شِتوي وأخبرتني أننا سنسافرُ لأبي. كنتُ آكل حلوى في طبقٍ صيني أزرق. "اذهبْ ورتِّبْ ما تريدُ أخذَه معَك"، قالت أمِّي.
تصورتُ أنني سأغيبُ أيامًا. لَملمتُ بقايا الحلوى وغطيتُ الطبقَ بورقة مِن دفترٍ كنتُ أرسم فيه جُزرًا ومراكِبَ لا تَصِل. خبّأتُ الطبقَ ودفترَ الرسوم داخل صندوق الخزين الخشبي الذي كنتُ أجلِـسُ فوقَه. كانت جَدّتي تستخدمه لتخزين الرز والفول. ودّعتُ سِربَ حَمَامٍ يُحلِّقُ فوق برجٍ طيني أمام عمارة جَدّي، لكنّ الحَمَامَ تَجاهَلَني؛ ربما كان حزينًا أو غاضبًا. قبْل أنْ أغادِرَ الشرفة، لامَسَني كلّ شيء وهو يبكي.
غِبتُ أربعين سَنة. وحينَ عُدْتُ كانت الشرفة قد أُعِـيدَ طِلاؤها. برجُ الحَمَامِ قد هُدِمَ ونُصِبَت مكانَه بنايةٌ عملاقة حَجبتَ أسراب الحَمَام. أُحيلَ صندوق الخزين الخشبي للتقاعد؛ رُفِعَ على الحائط وأُسدِلتْ فوقَه ملاءةٌ سوداء سميكة. أزحتُ الملاءةَ وفتحتُ الصندوقَ مُفتِشًا عـن بقايا الحلوى الذي لم أكمِله يومًا وعن دفتر رسومِ المَراكبِ التي لا تصل. نظرتُ إلى الطبقِ. كانت بقايا الحلوى ما تزال على حالِها.
إلى جوارِ الطبق. لمحتُ الدفترَ. خمّنتُ: أين تكون قد وصلتْ المَراكب؟ قَلَّبتُ كل صفحات الدفتر؛ لمْ يَبقَ مِن صورِ المَراكب سوى ظلالِ أشرعةٍ بقلمٍ رصاصٍ باهِت. تذكّرتُ بيتَ شِعرٍ لصلاح عبدالصبور: ...لا تُبحِر في ذاكِرتِكَ قَط".
مددتُ يدي إلى الطبقِ لآخُذَ قِطعةَ الحلوى الباقية، رَفعتُها ووضعتها داخلَ فمِي، فرأيتُ أسرابَ الحَمَامِ تدنو مِني مِن جديد.