قصة قصيرة... الحافة
عبدالعزيز زيوان - قاص مغربي
صعدت سطح العمارة، وارتقت الحافة المشرفة على الواجهة الأمامية، ثم أغمضت عينيها تأهباً لإلقاء نفسها من الطابق الخامس. أبصرها أولاد الحي الذين كانوا، في الأسفل، يتناوبون على حصب قط شيرازي علق في شباك إحدى النوافذ. تصايحوا، واستصرخوا السكان الذين هرعوا إلى الساحة يتابعون في صخب بنت حيهم الوديعة الهادئة، وهي تتهيأ للسقوط من أعلى البناية.
كان ضجيجهم يصلها متقطعاً بفعل الرياح القوية التي استمر هبوبها لليوم الرابع على التوالي. بقيت مغمضة العينين، تترنح على الحافة، مستقبلة الرياح التي كانت تدفعها إلى الخلف، وكأنها تحاول منعها من الانتحار. دست وجهها في راحتيها حتى لا تخبو همتها فتتراجع. رفع الجيران أصواتهم بالتوسل إليها، عساها أن تعدل عن أمر جلل قد يدخلها النار. اسودت الدنيا في عينيها بعدما أقسم أبوها بالأيمان المغلظة ألّا يزوجها ذلك الطبيب الشاب الذي أحبها، وأحبته، وتعاهدا على الزواج. كان خوض الحساد في سيرتهما بالسوء سبباً في رفض الأب، وكأن تعجيله تزويجها تأكيد الإشاعات المغرضة. وافق شقيقها أباه خوفاً من سخطه، وبالغ في التحامل على الشاب لا لعيب فيه، ولكن لغيرة الأخ الشديدة من ترب كان دوماً مضرب المثل في التفوق والنجاح. لم تكن تنتظر من أمها المقهورة، هي الأخرى، غير تلك الجملة التي ألفت سماعها حتى أنفتها: "لا تعذليني يا ابنتي، عندما تصبحين أماً، ستفهمين كل شيء".
ذاع خبر امتناع الأسرة تزويج الطبيب الذي رآه الجيران، عصر يوم الخميس، وهو يغادر بيت خطيبته مطأطأ الرأس. بالطبع كانت عيونهم المتربصة خلف الأبواب ترصد أدق تفاصيل دخوله إلى الحي وخروجه منه متذمراً.
احتشد خلق كثير عند مدخل العمارة، وتدافع الصغار والكبار، وأجهدوا حناجرهم في استعطافها وحثها على التراجع رأفة بها وبأسرتها. قدم إمام مسجد الحي إلى عين المكان مهرولاً بعدما وصله الخبر المحزن. اخترق الحشود الصاخبة، وأشار بيده فسكت الحاضرون، ثم انبرى يذكر الفتاة بصوته الجهوري بالآخرة ويوم الحساب، ويحذرها من الوقوع في غضب الله. استمر الشيخ واعظاً وناصحاً بل ومستعطفا لبضع دقائق، وسط تهامس الرجال، وتباكي النساء، وتشاغب الأطفال. وما إن سكت هنيهة لاسترجاع أنفاسه، حتى توارت الفتاة عن الأنظار المتطلعة إلى ذلك العلو المخيف. طفق الصغار يتراقصون فرحاً، وشرع الكبار في الدعاء للشيخ بالجنة على إنقاذ روح كادت تزهق. وبينما هم منهمكون في تبادل التهاني، لاح طيف الفتاة، فجأة، على حاشية السطح الخرسانية، فتعالى صراخ الأطفال من جديد، وانفجرت حناجر النساء بالعويل، في حين بقي الرجال مذهولين كالخرسان.
وقفت الفتاة على شفا الهاوية مستقيمة، قبل أن تنحني قليلاً، باسطة ذراعيها على الجانبين، وكأنها تبحث عن نقطة ارتكاز قبل التحليق في الهواء. استفزت حركتها الجريئة الحشود، فتفرقت في كل الاتجاهات، وتلاطم بعضها ببعض في جلبة وتوتر. امتزج النداء بالاستعطاف، واختلطت الأدعية بزعيق الصغار. تمايلت يمنة ويسرة، وأرسلت صرخة مدوية، وهي تقفز في الهواء. فتحت مقلتيها مذعورة، وإذا بوجه مشرق يقابل وجهها الشاحب بابتسامة ملائكية:
- أمي! أمي! وجدت هذه معلقة على الباب!
تناولت الورقة البيضاء، وهي تضم الصبي بين ذراعيها، ثم قرأت:
- لم أشأ إيقاظك حبيبتي، الحقا بي، أنت وهيثم، إلى العيادة. سآخذكما، بعد الظهر، إلى الشاطئ الذهبي.