«هدر المياه» شعار هذا العام في اليوم الدولي للمياه...
الخبير زباري: البحرين تواجه مشكلة مزمنة بالنسبة لقطاع المياه
السلمانية - محمد باقر أوال
يحتفي العالم، اليوم الأربعاء (22 مارس/ آذار 2017)، باليوم الدولي للمياه، الذي سيناقش فيه هذا العام شعار «لماذا هدر المياه؟». فعلى الصعيد العالمي، يتدفق أكثر من 80 في المئة من المياه العادمة التي ينتجها المجتمع إلى النظام البيئي دون معالجتها أو إعادة استخدامها.
كما يستخدم 1.8 مليار نسمة مصدراً للشرب من المياه الملوثة بالبراز، مما يعرضهم لخطر الإصابة بالكوليرا والدوسنتاريا والتيفود وشلل الأطفال. وتؤدي المياه غير المأمونة وسوء الصرف الصحي والنظافة الصحية إلى وفاة 842 ألف شخص سنوياً في جميع أنحاء العالم.
وهناك فرص وموارد هائلة لاستغلال مياه الصرف الصحي. إن إدارة مياه الصرف الصحي بصورة سليمة يمكن أن يكون مصدرا للطاقة والمواد الغذائية والمواد الأخرى القابلة للاسترداد واستدامة المياه وبأسعار معقولة. في الوقت الذي أشار الخبير المائي أستاذ الموارد المائية بجامعة الخليج العربي رئيس جمعية علوم وتقنية المياه الخليجية وليد زباري لـ «الوسط»، إلى أن البحرين تواجه مشكلة مزمنة بالنسبة لقطاع المياه. في حين قال زباري، تم تكليف جامعة الخليج العربي بوضع إستراتيجية متكاملة لقطاع المياه وخطتها التنفيذية للبحرين للفترة (2018-2030) وما بعدها، بما يتوافق مع الإستراتيجية الموحدة للمياه في دول مجلس التعاون. وكان هذا الحوار:
إلى إين وصلتم في إعداد الإستراتيجية الوطنية للمياه؟
تم في الشهر الماضي (21 فبراير/ شباط2017) تكليف جامعة الخليج العربي بوضع استراتيجية متكاملة لقطاع المياه وخطتها التنفيذية لمملكة البحرين للفترة (2018-2030) وما بعدها، من قبل مجلس الموارد المائية بالبحرين، وبما يتوافق مع الإستراتيجية الموحدة للمياه في دول المجلس التي أقرت في ديسمبر/ كانون الأول2016 من قادة دول المجلس في قمة دول المجلس الأخيرة في البحرين. ولقد تم تشكيل معظم فرق عمل مكونات الاستراتيجية المختلفة، وبشكل عام ستركز الاستراتيجية على الجوانب التنفيذية وبناء القدرات الوطنية الشابة التي ستكون هي المسئولة عن المياه في المملكة بالمستقبل.
وتهدف الاستراتيجية إلى إنشاء نظام لإدارة الموارد المائية في البحرين يكون مستداما، وعادلا، وآمنا وذا كفاءة ليساهم في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة بالبحرين.
وستشمل الاستراتيجية جميع مصادر المياه (المحلاة والجوفية والمعالجة) وجميع القطاعات المستخدمة للمياه (البلدي، الزراعي، والصناعي)، وستشمل جوانب الحوكمة، والتشريعات، والتوعية، والاستدامة المالية، والكفاءة الاقتصادية.
كما سيتم العمل على أن تكون أهداف الاستراتيجية وخططها التنفيذية ومخرجاتها متماشية ومتوائمة مع أهداف التنمية المستدامة ذات العلاقة بالمياه للفترة 2015-2030 ومستهدفاتها، وكذلك مع التزامات البحرين باتفاقية تغير المناخ المتعلقة بالحد من الانبعاثات الغازية، حيث ان قطاع المياه يستهلك نسب كبيرة من الطاقة وكذلك مسئول عن نسبة عالية من الانبعاثات الغازية من محطات التحلية الحرارية ذات الانتاج المزدوج. وبشكل عام تهدف الاستراتيجية إلى تحقيق استدامة المياه في البحرين لكي تستمر في خدمة أهداف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية فيها وتساهم في استدامتها.
تحديات البحرين من المياه العذبة
ما التحديات التي تواجها البحرين من ناحية المياه العذبة؟
من الصعب وصف الوضع في البحرين بأنه أزمة من وجود المياه العذبة، ولكن أعتقد أن البحرين تواجه مشكلة مزمنة بالنسبة لقطاع المياه. فهي تقع في واحدة من أكثر مناطق العالم جفافاً وندرة في الموارد المائية الطبيعية، ولديها كثافة سكانية عالية ونمو سكاني وتنمية اجتماعية واقتصادية متسارعة يفوق طاقة مواردها المائية الطبيعية القليلة نسبياً في تلبية متطلباتها، والتي تتمثل أساساً في المياه الجوفية التي بدورها تتلقى معدلات تغذية بسيطة جداً. ولذا عليها اللجوء إلى المياه غير التقليدية لسد الفجوة المائية بين العرض والطلب على المياه والمتمثلة أساساً في إنشاء محطات التحلية، وكذلك إلى إجراءات كفاءة المياه المتمثلة في معالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استعمالها. وعلى المملكة القيام بهذه الإجراءات بشكل يوازي معدلات الطلب على المياه والتي بدورها تعتمد على معدلات نمو السكان ومتطلبات المياه للتنمية الاقتصادية. وهذه الإجراءات تستنزف كلاً من الموارد المالية وموارد الطاقة المحدودة لدى المملكة ومصحوبة بتأثيرات بيئية سلبية.
وأعتقد بأن التحدي الأساسي الذي تواجهه البحرين، وكذلك دول المجلس وإن كان بدرجة أقل بسبب توافر الموارد المالية والطبيعية لها بشكل أكبر، هو في إيجاد التوازن بين ما هو متاح من مياه وبين استخداماتها المتنامية باستمرار مع تقليل التكاليف المالية والاقتصادية والبيئية المصاحبة لذلك إلى أدنى مستوى ممكن. بمعنى آخر، في كيفية التصدي لندرة المياه، سواء بسبب الظروف الطبيعية أو الممارسات الإنسانية واستدامة تزويد المياه للأنشطة التنموية المختلفة بالوتيرة الحالية وتحمل تكاليفها الباهظة والمتزايدة باستمرار.
وفي مواجهة هذا التحدي، تبذل البحرين العديد من الجهود لتلبية الطلب المتزايد وتقليص الفجوة المائية بين ما هو متاح ومتطلبات القطاعات التنموية. ولكن معظم هذه الحلول تقع في جانب العرض وزيادة الامدادات المائية بشكل رئيسي، وتتمثل في التوسع في بناء محطات التحلية ومعالجة وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي، وبرأيي فإن أسلوب إدارة العرض وتعظيم المتاح من موارد المائية بدون وضع ضوابط على الاستخدام قد أثبت عدم تمكنه من تحقيق أي قدر من الاستدامة للموارد المائية، بل على العكس فقد أدى إلى الاحساس بالوفرة، بدلا من الندرة، لدى المستهلك سواء في القطاع البلدي أو الزراعي أو الصناعي. ولذا، هناك حاجة لتوجيه هذه الحلول إلى جانب إدارة الطلب والتحكم فيه ورفع مستويات كفاءة الاستخدام والإمداد.
ولقد بدأت البحرين مؤخراً في المضي هذا الاتجاه، بعدد من الإجراءات في جانب إدارة الطلب والكفاءة، مثل تعديل التعرفة المائية البلدية لتكون أكثر عدالة وأكثر قدرة على استرجاع التكاليف، وفرض تعرفة على استخدام المياه الجوفية في القطاع الصناعي، وهذه التعرفة وإن كانت رمزية فإنها ستعطي المستخدم للمياه في هذا القطاع الشعور بقيمة الماء. كما سنت مؤخراً قانون المباني ذو العلاقة بالمياه والذي يهدف لترشيدها وتقليل الهدر منها. هذه التوجهات هي بداية الطريق في التعامل والتكيف مع المشكلة المائية المزمنة في البحرين.
ومن جهة أخرى، وفي مجال الحوكمة والمؤسسات قامت البحرين بإنشاء ترتيب مؤسسي رائد متمثلاً في مجلس الموارد المائية برئاسة نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ خالد بن عبدالله آل خليفة، يضم تحت مظلته جميع الجهات المسئولة عن المياه وكذلك بينها وبين الجهات الأخرى ذات العلاقة بالمياه مثل الطاقة والغذاء والصحة والبيئة لضمان التنسيق فيما بينها والتكامل بين إستراتيجياتها وخططها.
ما الجديد في تحديد التحديات والفرص لتحسين استدامة المياه في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والثقافية والسياسية السائدة في دول الخليج؟
قد يكون أهم ما حدث في هذا المجال هو إعداد الإستراتيجية الموحـدة للميـاه وخطـتها التـنفيذيـة لدول مجلس التعاون لـدول الخليج العـربية للفترة (2015 – 2035)، والتي جاءت تنفيذاً لتوجيه قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 2012 لإعداد إستراتيجية خليجية شاملة بعيدة المدى بشأن المياه، وموافقة قادة دول المجلس عليها في قمة البحرين التي عقدت في ديسمبر2016، وإقرارها بصورة استرشادية لدول المجلس لتقوم دول المجلس بإعداد أو مواءمة استراتيجياتها بناء عليها.
وترتكز الإستراتيجية الموحدة للمياه على 5 مجالات أساسية، تشكل دعامات لتحقيق استدامة المياه في المنطقة واستدامة خدمته في التنمية الاجتماعية والاقتصادية لدول المجلس، وهي تنمية واستدامة موارد الـمياه، واستخدام موارد المياه بكفاءة وعدالة، وتعزيز أمن إمدادات المياه البلدية، والحوكمة الفاعلة والتوعية، والكفاءة الاقـتصادية والاسـتدامة المالية. وعلاوة على ذلك، تم الأخذ في الاعتبار 4 مجالات أخرى تتقاطع مع المجالات الخمسة أعلاه، وهي: بناء القدرات والتدريب، الأبحاث والتطوير، الجوانب البيئية والايكولوجية، وتأثيرات التغير المناخي.
وتضمنت الاستراتيجية 10 أهداف استراتيجية شملت توطين تقنيات التحلية، والحفاظ على المياه الجوفية وزيادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة، وتحقيق أعلى الـمعايـير الـدولية في خدمات المياه والصرف الـصحي، ورفع كفاءة المياه وإدارة الطلـب في الـقطاعـات الزراعية والـبلدية والصناعـية، وتحسين الحوكمة ورفع الوعي بالمياه، وخفض التكاليف الاقتصادية لإمدادات الـمياه. وبرأيي أنه إذا ما تم تنفيذ هذه الأهداف أو حتى جزء منها فإن الاوضاع المائية ستكون أفضل بكثير من الأوضاع الحالية.
المياه العذبة
كيف تقرأ وضع المياه العذبة في البحرين مستقبلاً؟
بشكل عام وبحسب آخر الأرقام المتاحة، وهي للعام 2013، بلغ معدل الاستهلاك الكلي للبحرين أكثر من 370 مليون متر مكعب في العام، ذهب منها حوالي 240 مليون متر مكعب لتلبية متطلبات القطاع البلدي/المنزلي (حوالي 65 في المئة من الاستخدامات الكلية للمياه بالبحرين)، وحوالي 120 مليون متر مكعب للقطاع الزراعي (حوالي 32 في المئة من الاستخدامات الكلية)، وحوالي 10 ملايين متر مكعب للقطاع الصناعي 3 في المئة. علماً بأن استهلاك القطاع الصناعي غير مراقب بشكل جيد كما في القطاعين الآخرين. وتتم تلبية هذه المتطلبات من 3 مصادر رئيسية هي محطات التحلية بنسبة 60 في المئة والمياه الجوفية بنسبة 30 في المئة والباقي من مياه الصرف الصحي المعالجة 10 في المئة.
أما بالنسبة للمستقبل، فبحسب المعطيات الحالية فإنه من غير المتوقع أن تزيد معدلات استهلاك القطاع الزراعي بسبب محدودية الأراضي الزراعية بل وتناقصها المستمر مع الوقت وتحويلها إلى مناطق سكنية. ويبقى القطاع البلدي هو المستهلك الرئيسي والمرشح للزيادة مع النمو السكاني والتوسع الاسكاني وكذلك القطاع الصناعي.
وإذا اخذنا القطاع البلدي فإنه بحسب توقعات السكان في البحرين ومع افتراض استمرار انماط الاستهلاك من حيث متوسط معدل استهلاك الفرد (360 لتر للفرد في اليوم) ومعدلات التسرب الحالية 22 في المئة، فإنه من المتوقع أن يرتفع الطلب في القطاع البلدي ليصل إلى أكثر من 360 بحلول العالم 2035. وبسبب محدودية المياه الجوفية وعدم صلاحيتها فإن معظم هذه المياه علينا انتاجها من محطات التحلية.
وإذا أخذت الأسعار الحالية لتزويد مياه الشرب التي تتحملها المملكة في إمدادها (حوالي 750 فلسا للمتر المكعب بحسب هيئة الكهرباء والماء) فإن الاستثمارات المطلوبة لذلك ستصل إلى حوالي 12 مليار دولار أميركي تراكمياً حتى العام 2035، وسيكون هذا مصحوباً باستهلاك حوالي 14 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وانبعاثات غازية من محطات التحلية تصل إلى حوالي 81 مليون طن غاز ثاني اكسيد الكربون مكافئ.
وسينتج عن هذا الاستهلاك خلال نفس الفترة كميات صرف صحي تراكمية تصل إلى حوالي 3 مليار متر مكعب سيتطلب معالجتها انفاق ما مقداره حوالي 3.4 مليارات دولار أميركي (بدون حساب تكاليف الطاقة). وهذه الأرقام محسوبة على أحسن التقديرات، وبالتالي تعتبر هذه الحسابات متفائلة جداً. ولك أن تتخيل ما ستكون عليه التكاليف في حالة ارتفاع معدل السكان عن المتوقع أو زيادة معدلات التسرب، أضف إلى ذلك معدلات الخصم على العملة مع الوقت.
هذه التكاليف التراكمية المتوقعة تعتبر باهظة بالنسبة لبلد مثل مملكة البحرين محدود الموارد المالية والطاقة، ولذا، ليس هناك بديل الترشيد وتقليل الفواقد لتخفيض استنزاف الأموال والطاقة والموارد البيئية. وسيتطلب ذلك العديد من الجهود في مجالات إدارة الطلب وتغيير السلوك وأنماط الاستخدام، والتوعية، وسن التشريعات المطلوبة وغيرها من الأدوات الإدارية. ولنا في تجربة دولة مثل سنغافورة، وهي تماثل البحرين من حيث المساحة والموارد، مثال جيد في كيفية التعامل مع شح المياه.
وعند تطبيق هذه التدخلات الإدارية وتحقيق أهداف الترشيد وتقليل الفواقد فإن هذه التحديات الهائلة يمكننا تحويلها إلى فرص عالية، فكما هي الكلفة في الانتاج عالية، فإن مقدار التوفير بتقليل معدل استهلاك الفرد أو خفض التسربات سيكون عالياً جداً وبكلفة أقل، حيث أن كلفة ترشيد متر مكعب من الماء أقل بكثير من كلفة زيادة العرض لرفع مستوى الإمدادات المائية بواسطة محطات التحلية. فعلى سبيل المثال تعتبر كلفة الكشف والتحكم في التسربات لمتر مكعب من المياه البلدية أقل بكثير من زيادة طاقة محطات التحلية والإمداد بمتر مكعب واحد، وهكذا. ولذلك، يجب النظر إلى تحسين كفاءة المياه كعنصر مكمّل، وفي بعض الحالات قد يكون بديلاً عن الاستثمارات طويلة الأجل في مجال إمدادات المياه وبنيتها التحتية.
الأمن المائي
ماهو مستقبل الأمن المائي في دول الخليج العربية؟
لا يوجد تعريف دقيق وواضح ومتفق عليه لمصطلح «الأمن المائي» للدول، وقد يحمل المصطلح معاني مختلفة لدول مختلفة تتباين ظروفها وأولوياتها، فمثلاً تنظر دول مثل مصر والعراق وسورية إلى الأمن المائي من منطلق سياسي بحت على أساس تأمين حقوقها التاريخية من الأنهار المشتركة مع دول المنبع والتي هي بمثابة شريان الحياة والاقتصاد بها، بينما تنظر بعض الدول إلى قضية الأمن المائي على أنها قضية مرتبطة بتأمين مياه الشرب وتعتبر مرادف للاحتياطي أو المخزون الاستراتيجي المائي للدولة في حال توقف محطات التحلية لسبب ما عن العمل.
ولكن خلال السنوات العشرين الماضية تطور مفهوم «الأمن المائي» من تأمين كميات المياه المطلوبة للأنشطة الإنسانية المتمثلة أساسا في تأمين المياه لقطاعات الشرب وحماية الحقوق المائية للدول إلى مفهوم أشمل يرتكز على مبدأ التنمية المستدامة، على أساس أن تحقيق الأمن المائي هو مدخل ورافد رئيس لتحقيقها. بمعنى آخر أن الأمن المائي يعني استدامة الموارد المائية وعدم الإضرار بها كما ونوعا، باعتبارها مدخلا ورافدا رئيسيا لتحقيق التنمية المستدامة.
وفي دول المجلس التعاون لدول الخليج العربية، يتم التطرق إلى الأمن المائي لدول المجلس من خلال مفهومين متداخلين ومكملين لبعضهم بعضا، وهما المفهوم الشامل والمفهوم الأمني. أي من المنظور الشامل المرادف للاستدامة المائية ومن منظور تأمين مياه الشرب في حالات الطوارئ والكوارث. ويُنظر هنا إلى أهداف أكبر للتعامل مع قضايا وتحديات المياه والقوى الدافعة لها ووضع الحلول لها عن طريق تحسين أسلوب الحوكمة والإدارة المائية وبناء القدرات المؤسسية والبشرية وتطوير البحث العلمي ونقل وتوطين التقنية الحديثة.
وبشكل عام يتحدد مستوى الأمن المائي بمفهومه الشامل من قبل 3 عوامل رئيسية، وهي البيئة الهيدرولوجية الطبيعية، أي توافر المياه الطبيعية وتوزيعها المكاني والزماني السائد؛ والبيئة الاجتماعية والاقتصادية، أي هيكل الاقتصاد وسلوك الجهات الفاعلة فيه والمستهلكة للمياه وخيارات السياسات التي تتخذها في التعامل مع المياه؛ والبيئة المستقبلية، مع ازدياد الأدلة على أن تغير المناخ العالمي سيلعب جزءا رئيسيا فيها، بالإضافة إلى المتغيرات الأخرى مثل حجم السكان المستقبلي وتطورات الاقتصاد المحلي والعالمي وتأثيراته والطلب على الغذاء وتطور التقنيات ذات العلاقة بالمياه. وتلعب هذه العوامل أدواراً هامة في تحديد المؤسسات ومستوى وحجم البنية التحتية اللازمة لتحقيق الأمن المائي.
وإذا نظرنا إلى الثلاث البيئات هذه، سنجدها تعمل في غير صالح تحقيق الأمن المائي الشامل لدول المجلس وتعمل على إعاقته. فدول المجلس تقع في منطقة تتسم بندرة المياه وتذبذبها المكاني والزماني، وبها أحد أعلى معدلات النمو في العالم بسبب سياسات النمو الاقتصادي، وتعتمد بشكل كبير على المياه في بعض أنشطتها التنموية (القطاع الزراعي والسياحي والصناعي)، ويتم استهلاك المياه من قبل القطاعات الرئيسة المستهلكة بأسلوب غير رشيد وبكفاءة منخفضة يسودها الهدر، وينخفض فيها الوعي على مستوى الفرد والمجتمع بقضايا المياه وتعتبر فيها حل قضايا المياه من مسئوليات الجهاز الحكومي وليس المستهلك، والسياسات المائية المطبقة فيها حاليا، إن وجدت، غير متكاملة. ولكن بالمقابل، تمتلك معظم دول المجلس قدر كبير نسبياً من المرونة والقدرة على التكيف مع هذه الأوضاع، وإن كان ذلك بكلف اقتصادية وبيئية باهظة، وتتمثل في القدرة على التوسع في بناء محطات التحلية لتوفير المياه للسكان يساعدها في ذلك قوة اقتصادها وامتلاكها الموارد المالية وموارد الطاقة.
إلا أنه من منظور الاستدامة يجب عدم التعويل على استمرارية هذه الأوضاع المائية للعديد من الأسباب، من أهمها استمرار نضوب موارد المياه الجوفية وتدهور نوعيتها ما سيؤدي في النهاية إلى خسارة القطاع الزراعي لمصدره المائي وانحساره في المستقبل، والتكاليف الاقتصادية والبيئية المتزايدة مع الوقت للتوسع في بناء محطات التحلية، وازدياد المنافسة على المصادر المائية المحدودة بسبب تناقص المياه وزيادة الطلب عليها المستمرين. لذا، فإن مواجهة التحديات المائية التي تعيشها وستعيشها دول مجلس التعاون، الواقعة في أشد المناطق ندرة في المياه في العالم، لتحقيق الأمن المائي بمفهومه المتقدم والشامل يتطلب تعاملاً رفيعاً من الإرادة السياسية والمستوى الإداري والعلمي والتقني للتصدي لها، والأهم من ذلك هو تحسين مستوى الحوكمة لينتقل سلوك المجتمع والقطاعات المستهلكة للمياه من كونه جزءا أساسيا من المشكلة المائية إلى جزء رئيسي في طريق حلها.
تأمين المياه
أما بالنسبة لموضوع تأمين المياه لقطاعات الشرب فسبب الاعتماد الكبير لإمدادات المياه في دول مجلس التعاون على محطات تحلية مياه الخليج العربي، فإن ذلك بلا شك يعرض نظام إمدادات المياه في دول المجلس إلى مخاطر عالية من عدد من التهديدات. وهذه التهديدات يمكن أن تكون طبيعية أو من صنع الإنسان أو تكون عرضية أو مقصودة أو ناشئة من نشاطات برية أو بحرية.
وتشمل تلوث مياه البحر بتسربات النفط والمواد الكيميائية، والمد الأحمر، والتلوث النووي، ومياه الصرف الصحي والصناعي. وحالياً يمر في الخليج العربي حوالي 50 ألف سفينة من بينها حوالي 30 ألف ناقلات نفط، بينما البقية هي سفن شحن وسفن حاويات كيميائية، ومن المتوقع أن يرتفع مستقبلًا عـدد السفن العابرة للخليج العربي، الأمر الذي يرفع من مستوى التلوث واحتمال الحوادث، كما تشكل الكوارث الطبيعية مثل: الأعاصير، وفيضانات مياه البحر، والزلازل، وكذلك الحروب وعمليات التخريب، تهديدًا لمرافق المياه، ويتعرض ذلك نظام إمدادات المياه نفسه لعدد من التهديدات مثل: أعطال الطاقة الكهربائية، وانقطاع نظام التحكم ونظم البيانات (SCADA)، والتـلوث المتـعمد لإمدادات المياه المنزلية، وللمحافظة على المكتسبات الوطنية فلابد من بناء نظام أمن مائي يأخذ في الحسبان المخاطر المحتملة.
ولذا، يجب على كل دولة من دول المجلس إنشاء نظام عالي المرونة لإمدادات مستدامة لمياه الشرب في حالات الطوارئ، وصياغة «خطة استعداد متكاملة للطوارئ» لاحتياجات إمدادات مياه الشرب. ويتعين وضع اعتبار لهذه الخطة على المستويين الوطني والإقليمي. فعلى المستوى الوطني، تحتاج كل دولة إلى إجراء تقييم للمخاطر بشأن نظامها لإمدادات مياه الشرب والتهديدات المحتملة عليه. يتبع ذلك وضع وتنفيذ لخطة الاستجابة للطوارئ التي تشمل كافة مخططات الطوارئ الداخلية المحتملة (أي احتياطيات المخزون الوطني الإستراتيجي والشبكة الداخلية والمخزون السكني وترشيد المياه والاستعداد العام)، وكذلك مخططات الطوارئ الإقليمية (مثل الربط المائي بين دول المجلس). كما يجب على الخطة أن تنشئ نظام إنذار مبكرا إقليميا لتلوث مياه البحر وتنفيذ تشريع على مستوى المنطقة لحماية مياه البحر من التلوث بفعل النشاطات البرية والبحرية.
فجوة بين الخبراء وصنّاع القرار
هناك فجوة تحصل بين الخبراء والعلماء والباحثين مع صانعي القرار في وضع استراتجيات للحفاظ على المياه، بم تفسر ذلك؟
نعم هذا صحيح، أحد التحديات التي تواجه المختصين في مجال المياه هي كيفية إيصال المعلومات العلمية ووجهات نظرهم المستندة على بيانات ومعلومات علمية إلى صنّاع القرار، ودعوتهم لاتخاذ قرارات وإجراءات يمكنها أن تساهم في الحفاظ على استدامة هذه الموارد الحيوية، وكذلك إيصال هذه المعلومات إلى العامّة لرفع وعي المجتمع بأهمية الموارد المائية وحثهم على تعديل سلوكهم في التعامل معها والمساهمة في الحفاظ عليها.
وبشكل عام هناك أزمة ثقة بين الاثنين وبقاء المسئولين في جهة والباحثين الأكاديميين في جهة أخرى يضيع فرصاً ذهبية لالتقاء الحلول والقدرة على تنفيذها بشكل علمي. وبرأيي أن هذه الازمة ليست وليدة صدفة وإنما نتيجة تراكمات لكثير من التجارب المتراكمة المخيِّبة لآمال الطرفين. كما اعتقد أننا أمام مشكلة مجتمعية عامة، ليست محصورة في قطاع المياه فقط. ولكنني أعتقد أن المسئولية تقع على الباحثين والأكاديميين بالدرجة الأولى بوضع الحلول العملية للمسئولين وفهم هواجسهم، وأن يبينوا للمسئولين قدرة البحث العلمي في المساعدة في حل المشكلات التي تواجههم وفهم عملية اتخاذ القرار للمسئول.
ومع ذلك أعتقد بأن هناك حلحلة وتغيرا لهذا الموضوع في المنطقة في الآونة الاخيرة نحو بناء الثقة بين الطرفين، فتكليف جهة بحثية خليجية لإعداد الإستراتيجية الموحـدة للميـاه وخطـتها التـنفيذيـة لـدول مجـلس التعـاون لـدول الخـليج العـربية، وكذلك تكليف جامعة الخليج العربي بإعداد استراتيجية متكاملة لقطاع المياه وخطتها التنفيذية للبحرين، يعتبر خطوتين هامتين وتوجها حميدا لترسيخ العلاقة بين الخبراء والعلماء والباحثين مع صانعي القرار في دول المجلس.