قصة قصيرة... قاهرة الزمان
مصطفى محمد معوض - قاص مصري
كان الشفق ينشر غطاءه المشرب بالحمرة فوق زحام القاهرة عندما قررت أن أترجل من العربة بحثاً عن مخارج سحرية تبلغني وجهتي دون أن تنزف ساعتي المزيد من لحظات الانتظار. كنت أنوي أن أطلق العنان لحذائي الرياضي كي يمررني بين صفوف الغادين والرائحين، لكن بمجرد أن غادرت الشرنقة السيارة وجدتني وجهاً لوجه أمام بوابة حجرية ضخمة كأنما أنبتت من الأرض تواً فسلبتني لهفتي وأطفأت حر عجالتي... تجمدت مكاني وتبخرت من رأسي زحمة الأفكار وغفلت عيناي عن كل ما حولي إلا... (أقتربُ أكثر من اللافتة الزرقاء المعلقة على أحد جانبي البوابة لأقرأ مكتوباً بالخط الثلث الجلي): باب الفتوح.
دفعني فضولي عبر البوابة، ومع أول وطأة قدم فوق أحجار البازلت التي ترصع شارع المعز لدين الله الفاطمي غابت كل حواسي عن وعيها الحاضر: لم تعد أذني تلتقط أبواق السيارات ولا أنفي عوادم المركبات، بل سيمفونية الطرق على النحاس، ورائحة البخور والعطور تفوح من مأذنة جامع الحاكم بأمر الله، وانعكاس ضوء المصابيح الزيتية الهادئة على الواجهات الحجرية.
(كم من مركبة حرمتني متعة النظر إلى وجه القاهرة قبل أن يُعمل الزمان فيه تجاعيده!!)
تحررت من الحذاء فغاصت قدمي في ألف متر شرياناً يقطع قلب فاطمية عمرها ألف عام... تفجرت بداخلي مشكاة يكاد نورها يذهب بالأبصار لولا نأنأنبروز موكب الحاكم بأمر الله المتجه إلى القصر الشرقي يقطعه موكب العزيز بالله إلى القصر الغربي... تمتزج عفرة الأول بالثاني بجيش الظاهر بيبرس عابراً باب الفتوح... يلتفت الظاهر قبل أن تبتلعه الآفاق فترتفع يدي بغير إرادة مني لتلوح مع الملوحين المودعين الداعين له بالظفر والعودة من باب النصر.
أغلقت البوابات خلف الجيش وانقشعت العفرة وانطفأت المشكاة فإذا بمقهى أم كلثوم... ألمح عند زاوية منه نجيباً سابحاً متأملاً، يرسم لوحة أدبية ثلاثية الأبعاد... يرفع كوب الشاي فتذوب الرشفات الساخنة مع كلمات وليدة المنطق... يلتذ... يستسيغ... ثم يميل برأسه على الأوراق الجاثمة فيبث فيها القلم روحاً يتجسد منها السيد أحمد عبد الجواد عند زاوية الدرب الأصفر... يرفع محفوظ قلمه... يشخص ببصره... يتجه بكل كيانه إلى "سي السيد" والسيدة أمينة زوجته... يتسمع حواراً مشتعلاً تغلفه سيمفونية تصويرية نحاسية ونداءات من داخل المقهى وخارجه تخالطها همهمات السائرين... أجتهد في تبين حركات الشفاه الحادة للسيد وترجمة بعض شفراتها فتبتلعني حارة الدرب وتلقيني علي أعتاب بيت السحيمي في زي عثماني مطرز ويتبدل المشهد كله من حولي شرفات ومشربيات تتدلى... تناديني فألبي نداء التفاصيل المنمقة للحرملك... يعلق بصري بخيال ولهاء خلف ثقوب المشربية تملأ أوانٍ فخارية بعذب الماء... تكاد قدمي تتعثر ببعض أحواض الزهور التي تملأ صحن الدار... ألملم عباءتي وذاتي... أدلف إلى إحدى قاعات الضيافة... أتوسط مائدة السحيمي... يمتلئ بطني بالأشهى وتقر عيني بأبيات البردة التي تزين الإيوان... ينادي جامع السلحدار بالصلاة... أهبط إلى الميضأة في قبقاب مملوكي يضرب بصوت رخيم على أحجار السلم العتيق صعوداً وهبوطاً... تسري راحة العبق من قدمي إلى رأسي... أصطف بجوار العباءات المزركشة وأناطح العمائم المشدودة بإحكام... يؤمنا السلطان سليمان أغا... يتلو من آيات الإعجاز فأغوص في أعماق الزمان... أنهي صلاتي... أرتدي نعلي... يدق هاتفي عند الباب فيعيدني إلى 2017 عاماً بعد الميلاد... تـُظهر الشاشة اسماً يتعجل مجيئي... أجبته: "في الطريق إليك".
- "مرت ساعتان وأنت مازلت في الطريق إليّ!!"
-"نعم، ساعتان ولكن بألف عام..."