قصة قصيرة... وسط أحياء تحت الأنقاض
دعاء عبدالباقي - قاصة مصرية
عصيّ أنت يا قلمي يبدو أن مدادك قارب على الانتهاء... لا بأس سأحاول الكتابة بذلك القلم المحطم: من تحت الأنقاض يتزاحم الركام بعبق الدماء الذائبة في شرايين الأرض، وتعوي الصرخات يمازجها أزيز البكاء، ويلاحقها دوي عربات الشرطة، وعربات الإسعاف تنتشل المصابين والضحايا في مشهد أليم، وبين فحيح الظلمات، وتحت أنقاض الأمل بتنا ليلتنا غائبة الملامح. واقع لم نتأهب لملاقته، وماضٍ لو جاز لحبونا نقبّل يديه حتى يؤوب، ومستقبل وجهه مغبر بذرات الثرى المبللة بدماء الورود... ثلاثتنا أحياء ولكن...
تلك التجاعيد التي تخط يراعها في وجه عادل زميل الدراسة المخلص، وجاري الحبيب تنبئ عن معاناته، وتلهث شفتاه، ويلهج بالشهادتين؛ فرائحة الموت تطوف بيننا... عادل على شفتيه ابتسامة الموت: عجيب ينهار العقار، وتبقى أحجاره تصنع كهفًاً لنا... رددت: يا تُرى كيف حال من نجا من الانهيار؟ ربما الآن في مخيمات كاللاجئين أو حفنةٍ منهم لاذوا بأقرباء لهم أو ... صرخ حسن: اصمت - كان منزوياً بجانب أحد الركامات - لا فرق بين ألم بنكهة الضياع، وألم بنكهة التشرد، فأجبته: لا يا حسن. الفرق هو الحياة، فرق يستحق أن نعاني من أجله. حسن: وإن نجوت، ماذا سأفعل؟ أين أولادي؟ زهرات عمري التي مزقت تحت الانهيار، وزوجتي كم عشقتها! وكم ذاق صبرها معي كل أنواع المر! لن أجد البديل... حياتي بدونهم كما نفحات الموت، رددت: يا حسن لا تغرق في بحر القنوط، ربما ما زالوا أحياء، مرابطين بجوارنا، يرهفون السمع لخطراتنا. عادل: أما أنا فزوجتي في عداد الأحياء، ولكن يمزق قلبي شعور بأنها لم تكترث لموتي؛ كنا دائمًا نبيت على الشجار، ونصحو عليه، وكأنه ثالثنا، ثم رمقني بحقد: أما أنت يا محمد، فلا أحد تخشى عليه من أن تسحقه أيادي الموت؛ ضربت الأرض تحتي بألم وحنق كاد أن يمزق صبري، وتفاؤلي... وتفاجأنا بذلك الصوت الصادر؛ كأن هناك فراغًا تحت الأرض، وتساءلت عيوننا قبل ألسنتنا: ما سر هذه القرقعة. حسن: ربما هناك قبو تحت هذا العقار.
هاج عادل: العقار عتيق ربما هناك مخبأ سري تحته أسسه صاحبه؛ تحسبًا لويلات الغارات والحروب. ثُرت: لنتبع أصوات الفراغ. فجثونا في ممر صغير كالغار من أثر تراكم الأحجار، ولحقا بي، وأنا أضرب على الأرض بيدي حتى أحسست بشيء يجذبني لأسفل، وكأني بين الرمال المتحركة، وعادل وحسن يتبعاني بصراخهما. تذكرت هاتفي الذي لا زال وفيّاً لي. أضأت وميضه لم أكد أصدق ما أذهل عيني.
غرفة في باطن الأرض، ألجمت المفاجأة ألسنتنا، لا ندري أنبكي أم نضحك ؟، والسؤال الذي أيقظ شرودنا طرحه عادل: هل هناك فتحة للغرفة غير تلك التي ولجنا منها تقودنا للحياة والنجاة؟ داعبتنا بسمة الأمل، حتى حسن. حدقنا النظر في الغرفة عثرنا على أسلحة قديمة، فتأملها حسن بفضول معلم التاريخ، وسراج جف زيته يحتاج إلى كبريت ولا هواء يطفئه. لحُسن حظنا عادل مدخن معه قداحة. أشعلنا السراج، سرنا في غرفة كالنفق طويل، وفي أعيينا جذوة حياة، وفي قلوبنا حلاوة اليقين.
وما إن وصلنا لنهاية النفق حتى صعقتنا المفاجئة؛ لا ملاذ لا مخرج؛ فالنفق مسدود. صرخنا جميعاً، وضرب عادل الحائط بيده من قسوة الحسرة، فأدهشنا ما رأينا. باب خشبي في الحائط فتح متأثرًا بقبضة عادل، وظهر لنا درج اعتليناه، حتى وصلنا إلى باب في قبو عقار آخر، وأضأت الشمس بريق عيوننا، فالتفت إلى عادل مازحًا: يبدو أن البركة في يديك هذه المرة.