بهجة حزينة
قصة قصيرة - محمود أبوصالح (قاص سوري)
تركت عملي وخرجت مسرعاً تلبيةً لطلبها، لم آبه لتوبيخ صاحب الورشة، بل كنت آبه توبيخها.
الفرق بيني وبينه ليس اختلاف لغةٍ ولهجة، بل هو خلاف المعرفة والثقافة. بينما الفرق بيني وبينها هو اختلاف زمنٍ ظرف، وليس خلافَ الجيل الوقت.
دخلت إحدى الأحياء، وكان هناك تجمع لأهالٍ أمام مدرسة أطفال تعج بالأصوات. لم تكن الأصوات شاذّةً على الإطلاق، بل كانت مناسبةً لجمال هذا الطقس. كصوت العصافير في الصباح، صوتٌ من أصوات الحياة يملؤُك سعادةً وهناء.
كان انتظارُ الأهالي لخروج أطفالهم كانتظار الوالد لخروج مولوده، من غرفة الولادة، شعورٌ ممزوجٌ بالقلق والفرح؛ تبقى قلقاً...خائفاً...مترقّباً... حتى تبكي من شدّة فرحك!
دقّ الجرس، ودقّت معه قلوب الأهالي. وخرج الأطفال ليضيئوا وجوه والديهم، وترى الأهلِ يبحثون عن بهجتهم وسط هذه السعادة.
فهناك والدٌ يقف على أطراف قدميه ليعلوَ قليلًا حتى يتمكن من رؤية طفله. وهناك أمٌّ تدير رأسها يميناً وشمالًا وسط هذا الجمع لعلها تجد مولودها. وهنا والدان يجلسان في سيارتهما، قد علّما طفلهما أين يوقفان السيارة، ليهرعَ لها مباشرةً.
امتزجت الأصوات والضحكات، ولا تسمع سوى "بابا... ماما" وترى العيون قد أُبرِقت بهجةً، والأرصفة قد أُنِيرتْ براءةً، والأحضان قد مُلأتْ أطفالًا، وكلّ طفلٍ يريد أن يتحدث عن مغامراته خلف ذلك السّور.
ثمّ تقفز طفلة من بين هذه الجموع لتعانقني بشدّة ورأسُها لم يعلو حزمة بنطالي. غلبتني الدهشة حينها، ولكني أخفيتها بابتسامة تجعلها تكمل ما بدأت به. أمسكت يدي منادية ياني "بابا" وهي تجرّني خلف حشود الأطفال مع أهاليهم وصوتها يعلو شيئاً فشيئاً.
كان كفّها لا يبلغ نصف حجم كفي، ولكنّ خشونته كافية لخدش كفي.
أخرجَت من حقيبتها رسمةً رسمتها، منزلٌ صغير بجانبه طفلة ووالديْها، وقد غلبت البساطة على جمال هذه الرسمة. كانت تريني إياها وعيناها تبرق فرحاً وهي تقول لي "بابا" هذه "ماما" وهذه "أنا" وهذا "بيتنا". كان سينُها ثاءً، وكافُها تاءً، فتخيّل نُطقها "سكراً"!
هه... كان لفظاً لطيفاً جدّا، وكان شرحها بجدية مسلياً، ولم يخفي شحوارُ خدّها براءتها، ولم تُنقص رُقَعُ ثيابِها جمالَها.
أما ابتسامتها، هه... فكانت أجمل ما في ذلك اليوم.
أما ابتسامتي، فكانت تخفي مظاهر استغرابي تارة وتعطيها مجالاً تارة أخرى.
وصلنا إلى نهاية الطريق، وقد افترقت حشود الأطفال مع ذويْهم ليذهب كل منهم إلى منزله.
وحينها أوقفتني وأنزلت حقيبتها من على ظهرها معيدةً رسمتها البسيطة ومخرجةً منها علباً من المناديلِ الصغيرة. ثمّ أغلقتها وحملتها قاطعةً الشارعَ دون الالتفات إليَّ أو إلى من خلفها، وكأنها تقول لي: "إنّ دورك قد انتهى...".
هنا، حيث كل شيء بات جامداً، لا يسَعُ المرءُ سوى أن يتوقّف لحظةً، يراجعُ الذي جرى، علّه يستوعب شيئاً من الألم. وأيّ ألم؟!
أظنّه ليس بألم، بل إنه أشبه بالحرق... حرقة القلب!
إنك كشاب عابر، تستطيع أن تتعاطف مع هذا المشهد جدّا وإلى درجة البكاء، وربما تهرع لحضنها ثانيةً أو لإعطائها القليل من المال علّك تعفيها من عملها اليوم. سيكون ذلك جميلاً ونبيلاً ربّما.
ولكنّك لا تستطيع سوى أن تعضّ على شفتك لتخفّفَ ألمك، ولتخفيَ حزنك، علّك تستطيع تحريك قدمك، والعودةَ لعملك، حتى تعيشَ وتُعيل، خاصّةً إذا كانت هذه أخْتك!