قصة قصيرة... أيادٍ مسمومة
أحمد شرقي - قاص مغربي
شهد شاهد ربما من أهلها: "ألمْ يجدكِ حزينة فأسعد؟ ووجدكِ تائهة فأرشد؟ كنتِ وحيدة فكان أنيساً سيدتي، من منّا نحن الرجال لا يُخطئ؟ الخير في التوبة وهو قد تاب، ارحميه من جرجرة العقاب"!
كان الشاهدُ لا يُحبها، منذ أن وُلدَت وهو يكرهها لغاية في نفسه، يحملها ويقبّلها مجاملاً والدَها صاحب القصر والسيارات الفارهة والشركة ونصف المدينة... وحين يغيب الأب يقرصها من فخذها حتى تسمعَ النجومُ صراخَها الطفولي المزعج.
حرمته الأعوام التي مرّت كالبرق من مواصلة لدغها في وحدتها، فقدْ أصبحت تعرف كل شيء لم تعرف هويّته بالضبط، هل هو عمّها أم خادم أبيها، أم هما معا!... ولم تهتم في يوم من الأيام للأمر، ما تدريه حق الدراية الآن هو حقدها على جنس الرجال.
طَرَدَت زوجَها مئات المرّات من قصر والدها - بالأحرى قصرها فهي الابنة الوحيدة للمرحوم - لكنه لم يكلّ، يأتي كل يوم طالباً العفو علّ قلبها يحنّ، عاشر غيرها في نتيجة حتمية للقصة، فهو لم يلج قلبها حبّا فيها، بل حباً في الأملاك والجاه في المدينة.
جمَعَت الخدم والحشم بمن فيهم الشاهد، لا تعرف في أية خانة تضع هذا الرجل الذي يرى الأعمى خبثَه وتملّقَه، لم تطرده فقط لأن والدها كان يعزّه، كان قائد الخدم وأكبرهم، ومازال.
خاطبت الجميع بنبرة اقتربت من صوت ذكوري خشن، والغضب قد تكدس في عينيها:
"لا أريد أن يصل عندي ذاك الرويجل مرة أخرى، لم يعد زوجي، هل فهمتم؟... أنت أيها الحارس وكلابُك، أنتِ أيتها الطاهية المهملة، أنتم جميعاً، لا تقطعوا رزق أبنائكم بأيديكم، إذا جاءكم الخائن الحقير ارموه في الشارع، أطلقوا عليه الكلاب المسعورة، المهم... لا أريد رؤية وجهه الملعون... اذهبوا الآن، اذهب أنت أيضاً (عمّي المَعطي) (الشاهد)".
كانت تطلّ عليهم من الطابق الأعلى وهم في البهو الكبير، ورؤوسهم مرفوعة إلى السماء، أنهت أوامرها لتتلاشى بسرعة، قاصدة غرفتها، أحكمت إغلاق الباب عليها، انحنت لترفع صورة من الصور المرمية على الأرض، حتى أوشكت أن تسقط على فمها من وهنها العميق، كانت الصورة الوحيدة التي لم يستهدفها قصف التمزيق، فحافظت على عذريتها في لطف من الأقدار.
لامت وجْهَ من خذلها في لحظة ضعف أنثوي كان يساورها منذ دقائق:
"المظاهر خداعة، ليت قلبك وعقلك كوجهك... أنسيت يوم سألتَني عن أكثر شيء أكره؟
اششش... اصمت، قلتُ لكَ حينها (الخيانة)، وقُلتَ لي لن تترك يدُكَ يدي إلى الأبد، أين وعودك؟ خمسة أعوام أضعتُها من شبابي مع لئيم مثلك، حتى الأولاد لم تقدر على إنجابهم كالرجال".
يدٌ مزعجة تخبط باب الغرفة، إنه المَعطي، يضرب الأبواب دائماً بكف يده، لا يكلف نفسه عناء ثني الأصابع والطرق بلطف.
- ماذا تريد عمّي المَعطي؟ ألم أقل لكم إذا جاء اطردوه؟ ألم أقل لكم...
اغتصب كلامها في خرق جليّ لأدبيات الحوار:
- لا، ليس زوجكِ، لقد حضر رجل أنيق يحمل حقيبة سوداء لم أره في حياتي.
- ومن يكون؟
-لم أسأل، لكني رحّبت به
نَزلَت بسرعة متفقّدة:
- مَنْ سيادتكم؟ أخبار الخير!
ليجيب الضيف:
- محامي المرحوم، معي وصية منه حان وقت قراءتها إذا سمحتم.
تراكم العاملون عندها كالنمل لسماع فحوى الوصية... كانوا يتجسسون.
- تفضل أستاذ، مع أني لا أعلم شيئاً لا عنكَ ولا عنها.
أخرَج َورقة من حقيبته وأعلن: "أترك تلثَ أملاكي لرفيق دربي المَعطي الزهراوي" ثم أردف: "كتَبَها المرحوم بخط يده وأمضاها".