قصة قصيرة... ذاكرة امي!
جابر علي
بين حينٍ و آخر، تطلب مني امي أن أجلب لها دواء النقرس... وأن آخذها الى بيت اخيها الذي يسكن في قرية اخرى، وأن اصلح سخّان الماء لأنها لا تحب الاستحمام بالماء البارد حتى في الصيف... أمي تجاوزت السبعين من العمر، وقد لاحظتُ انها تقول الشيء وتنساهُ بعد ساعة، وتطلب امراً ولا تتذكر ما طلبت بعد حين، لهذا عندما تطلب مني شيئاً، فإنني في كلّ مرة، أعدها بإحضاره وأتجاهل الأمر، لأنني اعرف أنها ستنسى ما طلبت فضلاً عن عدم ثقتي بوجود حاجة لذلك الغرض... وعندما تعيد طلبها مساءً، أعرف أنها تعتقد أنها تسألني إياه للمرة الأولى، لذلك أتصنّع الموافقة، لثقتي أنها لن تتذكّر طلبها صباح اليوم التالي... فتهزّ رأسها راضية.
سمعت صباح اليوم تلاوة القرآن صادرة من مُكبّرات المسجد، لاحقاً استلمت رسالة أن المتوفاة... هي أم سعيد، شعرت بحزن ليس من أجلها قطعاً، بل لأن أمي تفقد آخر زائرٍ لها في وحدتها، فأنا نادراً ما أجلس اليها أو أحادثها، إذ لا أملك من رفاهية الوقت ما يجعلني استمع لقصصها أو رواياتها التي لا رابط بينها ولا مغزى من ورائها.
أم سعيد صديقة قديمة لأمي ورفيقة جلستها وهي ربما الوحيدة التي لم تنقطع عن زيارتها منذ سنين، على رغم الهرم والضعف الذي أناخ بالأرملتين. تجلسان سوياً لساعات، تتحادثان، تعيدان ذات القصص كل يوم تقريباً، عند مروري عليهما فإنني غالباً ما أسمع ذات الحكايات مع احتمال تغيّر بعض الأسماء الواردة في الحديث!، الغريب ان أم سعيد، على رغم أنها من سنّ أمي كما أظن، إلا أنها أشدّ منها قوة وأصلب عوداً وأحدّ ذاكرة، فهي تعرف الدرب إلى بيتها، على رغم وعورة الطريق وطول الأزقة التي تقطعها للعودة.
أعرف أن أمي - غالباً - لن تتذكر صاحبتها تلك بعد أن انقطعت مدة كانت فيها راقدة في المستشفى في أيامها الأخيرة، لم تسأل عنها وهي على الأرجح لم تفتقدها، فأمي، حسبما أعتقد، بالكاد كانت تتعرّف عليها بعد مضي وقت من جلوسهما. على رغم ذلك، فأنا كنت أود إخبارها عن الأمر، لأنها ستسألني لاحقاً عن سبب قراءة القرآن صباحاً، خاطبتها في اليوم التالي، وأنا أصعد الدرج وبلغة لا مبالية: اُمّاه... اُم سعيد توفيت أمس... نظرَتْ لي مُستفهمة... نسيتُ أنّ سمعها ثقيل، نزلتُ بِضع درجات ورفعتُ صوتي: "ام سعيد ماتت" ، لم أكن أتوقع منها أكثر من "استرجاع" مُحايد كشأنها مع الجميع، ولكنني ذُهلت إذ امتقع وجهها واغرورقت عيناها بالدموع... وأجهشت بالبكاء وصارت ترتعش حتى خفت أن يغشى عليها من الإنفعال والتأثر... كفكفتْ دموعها ومسحتْ أنفها وقالت بصوت مبحوح: متى توفيت؟ بالأمس... أجبتُ بصوت هامس مُتعاطف!... قالت بحسرة وأسى: كانت تشكو من ضيق في النَفَس فقط، لم تكن تعاني من علّة اخرى، طلبت منها ألا تأتي كل يوم، ولكنها كانت تحرص وتصرّ على زيارتي، وقد تركتْ منديلها ومفتاحَها هنا في آخر مرة... الله يرحمها... هل توفيت في المستشفى أم في بيتها؟
صمتُ قليلاً... كانت يدي قابضة على الدرابزين في منتصف الدرج... استدرت، خطوتُ نازلاً مُتّجها للباب.
سألتني... أين ستذهب؟
بصوتٍ خفيض وأنا مُنكّس الرأس، أجبت: سأذهب لأجلب لكِ الدواء وأحضر من يُصلح السخّان!