العدد 5310 بتاريخ 21-03-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قاعة الانتصار

أحمد شرقي - قاص مغربي

اللوحة للفنان الإسباني العالمي سلفادور دالي

فاجَئني بسؤال دون سابق حديث:

لم ألتقط ما بعد يا (...)، لكني أجبته من دون أن أعلم الاسم أو الوصف الذي منحني :

- الحادية عشرة وثلاثون دقيقة.

لم يرُقه ذلك لدرجة أنه أدار عنقه من حيث أتى به دون أن يكلّف نفسه عناء الشكر، تمتم بعبارة وصلتني هذه المرة: "الطبيبة تغادر عند منتصف النهار، أووف".

رفع معصمه نحو وجهه ليتأكّد كم الساعة، التي لا يملكها أصلاً، حاول التدارك دون أن يُشعرني، مسح بيده على وجهه في لقطة ذكية منه.

كان معظم المنتظرين مثلنا من العجزة وقد ذهبوا، لم أجد تفسيراً لإقبالهم الكبير على عيادة الأسنان، المهم أنهم أتوا باكراً وذهبوا باكراً، ولم يبق للطبيبة إلا أنا وصاحبي، هذا الرجل الأربعيني الغريب.

يسرق مني نظرة ثم يعود ليتجول بعينيه في أثاث القاعة المحدود، تلفاز غير مشغّل يهيىء الجوّ لصمت رهيب يزيد من وجع الفم، تسعة كراسٍ بما فيها كرسيّان متقابلان اخترناهما أنا وصديقي صدفة، وبضع مجلات على الطاولة.

حفظت عن ظهر قلب أغلفة المجلات، عناوين متشابهة تتكرر في كل واحد منها "دراسة: علاقة الجهازين الهضمي والتناسلي بصحة الأسنان"، "تنبيه: لا تتّبع الوصفات التقليدية لتبييض الأسنان إلا بعد استشارة طبيبك"... وسيكون حفظها من دون شك.

في الواقع كنت على غراره أسرق منه بعض النظرات، مستكشفة أحياناً وخبيثة أحياناً أخرى، تمنّيت في خاطري أن يمشي ويعود في الحصة المسائية من عمل الطبيبة، وهي نفس أمنيته.

يُغيّر وضعية جلوسه بمعدل ثلاثين مرة في الدقيقة، يضع فخده الأيمن على الأيسر، ثم الأيسر على الأيمن، يئنّ... يرفع معصمه نحو وجهه ليتفقد عقارب الساعة ثم يتدارك فيمسح بيده على وجهه أو رأسه.

لم أره عندما دخل ملتحقاً بقاعة الانتظار، ولا أظن أني وجدته عند قدومي، ربما نفس الكلام يدور في رأسه المدوّر الصغير ذي الملامح المختصَرة، كما أني لا أعلم من منّا تبع وصول الكبار في الصباح.

بينما كان بصري يخترق جداراً في لحظة سهو أمسح بها روتين الفضاء، باغتني بسؤال آخر يكسر قواعد المنطق:

-ستخلع ضرسك؟

-نعم !

عضّ بأسنان فكه العلوي المتراصّة دون فراغ على شفته السفلى في مواساة محبوكة، نظر بعد لحظات إلى باب القاعة، ثم دلّى رأسه الكُروي بالقرب منّي لكي لا يسمعه أحد:

-لا أنصحك، نزعت لي الطبيبة ضرساً في آخر مرة فأُصبْت بنزيف خطير، إذا أردت أن تتخلص من همّه وجب عليك المجيء في الصباح الباكر.

-غدا مثلاً؟

أحسن، أما الآن فقد استنزفت الطبيبة قواها، وستكون من دون شك فقدَت تركيزها الكامل... قد يصبح الألم ألمَين، ولك واسع النظر يا ولدي.

بدا لي بعد كلامه هذا أنه أكبر مني سنّاً فقط، ابتسمت على رغم الألم الذي يداعب فمي من حين لآخر وسألته ببلادة مصطنعة:

-وأنت اليوم ستُريحك الطبيبة من ضرس مريض أم ماذا يا...؟

استمرّ في خطته مجيباً على الجزء الذي انتقى :

-سمير، اسمي سمير وأنت؟

أطلّت مساعِدة الطبيبة علينا ببذلتها البيضاء منادية: عبدالله، لقد حان دورك، تفضّل !

قمت منتشياً بفرح النصر المخفي في صدري، وهجَت عيناه واعتصر وجهه، انتفض من كرسيّه مباشرة يستهدفني من الخلف، خِفت أن يضربني فرفعت يدي لأحمي رأسي من ضربة توقّعتها قاضية، لكنه كان قاصدا باب الخروج من العيادة فقط... تداركت، مسحت رأسي في لقطة ذكية مني، واتّبعت خطوات المساعِدة.



أضف تعليق



التعليقات 4
زائر 1 | 7:07 ص قصة ممتعة جدا رد على تعليق
زائر 2 | 5:51 م قصة لذيذة بمعنى الكلمة .. المرجو المواصلة و امتاعنا بهذا الاسلوب و الحبكة القصصية الممتعة رد على تعليق
زائر 3 | 12:01 م قصة رائعة أسلوبا ولغة، أحسنت رد على تعليق
زائر 4 | 11:42 ص أعجبتني. رد على تعليق