العدد 5278 بتاريخ 17-02-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... الفردوس الطائر

أحمد الزناتي محمد - قاص مصري

طالما اشتَكَتْ زوجتي مِن شدّة حرارة الغرفة الضيّقة التي نسكُنها. إلا أنّ شكواها لم تزِدْ عن "أفٍ"، وكفٍ يمسحُ العرقَ فوقَ جبينها. كنتُ أسمع هذه "الأفّ" أوبرالية طويلةً كل ساعة.

أجبرنا هذا الحرّ الصيفي على لزومِ الشقةّ التي نسكنها فوق سطح العمارة. كنا نعيشُ في الطابقَ التاسع والأخير، ولا نخرجُ إلا حين يهبطُ المساء، فنزفرُ معًا زفرةً طويلةً، نَلفِظُ بها الهواءَ الساخِن مِن جسديْنا، ليحلّ محلّه هواء المساء المُنعِش. لمعتْ في رأسي فكرةٌ ستخلّصنا مِن هذا الحرّ الجهنمي الذي كان يمتد سبعة أشهر هي فترة الصيف، فقلتُ لها ونحن جالسيْن فوق سطحِ العِمارة نتنسّم هواء المساء الخفيف: وجدُتها. فردَّتْ وهي تمسح قطرةَ عرقٍ على وجنتها: هل سنجلسُ طوالَ النهار في حوضِ المياه يا أرشميدس؟ "لا... سأبني عٌشّةً فوقَ السطح، فنقضي فيها فترةَ المساءِ والسهرة، وممكن ننامُ داخِلَها".

كانت فكرةً بسيطةً، حدّقتْ إليّ زوجتي وأطلقَتْ "أفٍ" مختلفةٍ عن "الأفات" السابقات، فيها شيءٌ مِن الاقتناع. أحضرتُ ورقةً وقلمَ رصاص وبدأتُ أحسبُ الأطوال والخامات اللازمة والكلفة التقديرية للموضوع، وحينَ انتهيتُ، اكتشفتُ أنّ الكلفة مناسبةً لحالتنا المادية. تقمصتني روحُ المرحوم حسن فتحي، شيخُ المعماريين، ولمسةَ فناني عصرِ النهضة الإيطالية، وأخذتُ أعملُ في العشّة ثلاثَ ليالٍ، واصِلًا الليلَ بالنهارِ. كانت عشّة مستطيلة الجوانِب، والأعمدة مُغطّاة بالبوص، وفي منتصفِ العشّة تمامًا يقفُ عمودُ الخيمة، جذعُ نخلة عريض، ذكّرني ببهو معبد فيله في أسوان. أما السقفُ فقد شيدته مِن أعوادِ لبلاب ذات أوراق خضراء عريضة، وبراعمَ نامية مِن كلّ الأطرافِ.

على بابِ العشّة، وضعتُ أصصَ زهور ياسمين وريحان وقرنفل، ووروداً بيضاء وحمراءَ تلتفّ حول مدخلِ العشةّ وتطوّقها مثلَ قِلادةٍ مِن الزهور تزيّن عنقَ عروسٍ. حينَ انتهيتُ مِنها، تسرّب إلى شعورٌ قوي أنني حقّقتُ ما كنتُ أتمنّاه طوال حياتي: فردوس أرضي مِن صنع يدي، فردوسٌ أعيشُ فيها أنا وامرأتي لا يزْعِجُنا أحدٌ. بل إنني علّقتُ فوقَ بابِ العشّة فرعيْن مِن لمباتٍ صغيرة ملونةٍ بالفضي والأحمر والأخضر والأزرق. قالتْ لي زوجتي: ... هذا فردوس حقيقي يا آدم... ولكن... الجنة بدونِ ناس، لا تُداس. كدتُ أطلِق "أفًّ" أخرى، أشدّ قسوةً وضيقًا مِن "أفّات" زوجتي في الماضي. فلقد صنعتُ هذا الفردوسِ الأرضي بيدي، ولا أريدُ أنْ يشاركني فيه أحد. إلا أنّ زوجتي أصرّتْ على دعوةِ سكانِ العمارة جميعهم احتفالًا بافتتاح جنّتنا الأرضية. قبِلتُ على مضضٍ إرضاءً لها.

ولأنني لا أعدمُ الأفكارَ الجيّدة، لمعَتْ في ذهني فكرة كتمتها داخلي. فتزيّنتُ في تلك الليلة، وارتديتُ بذلة الفرحِ وربطة العنقِ الحمراء، بل واشتريتُ جوارب جديدة وحذاءً فضيّا لامِعًا، ووضعتُ عِطرًا ثمينًا لا أضعه سوى في المناسبات، وطلَبتُ مِن زوجتي ارتداءَ فستان خطوبتها الفيروزي الموشّى بقطعٍ مِن الكريستال الأبيضِ. كنّا مثلَ عريس وعروسٍ ليلة الزِفاف. خرجنا إلى سكان العِمارة. فوقَ المناضدِ الصغيرة، رصًّتْ زوجتي أطباقَ الحلوى الشرقية والغربية ومشروبات غازية. كان نسيمُ المساء في تلك اللية باردًا، فانشغلَ المدعوون بالطعامِ وبالحديثِ في مجموعاتٍ صغيرةٍ جانبية، وهم يتنسّمون الهواء. أمسكتُ بيدِ زوجتي ودَلَفنا إلى داخلِ العشة. سألتني: هل سنتركُ الناسَ وحدَهم"؟ أجبيتها: بل سنراهم مِن حيثُ لا يروننا. دنوتُ مِن العمود الحامِلِ للعـشّة، وزحزحته عن مَكانِه حتى انفَلَت الجذعِ تمامًا. بدأت العشّة تهتز وتتمايل بفعلِ الهواء، طوّقنا أنا وزوجتي العمودَ بسقاينا، وأخذنا نطيرُ في فضاءِ السطح، نرتفعُ ونعلو، ونرى الناسَ تحتنا تصغرُ وتبتعد، وأخذنا نعرجُ في الفضاء حتى غِبنا عن الأنظارِ تماماً.



أضف تعليق