العدد 5275 بتاريخ 14-02-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... كبرياء

محمود أبوصالح - قاص سوري

هنا… حيثُ كلّ شيء بات مُعِتماً، الشّمس لم تغب بعد. ولكن بعض الضمائر لم تعد تشرق من جديد.

أمشي وكأني قد صحوت من سباتٍ طويل، تُأرجِحُني كدمات الأرض المتعرّجة، كطفلٍ يمشي من أوّل وهلة، وخلفه والده يسنده إذا همّ بالسقوط.

أمشي وأتلفّت مرتجفاً، ليس لبردٍ أو لهواء، بل لتعجّبٍ ودهشة.

أمشي وقد أُنير دربي بشموعٍ أشعِلَتْ، من لهاب نيرانٍ أكلت، جمال هذا الطريق…

أمشي وأبحث عن منزلها، لا آبه لصوت الأنين الذي بدا كموسيقى تصوّرُ هذا المشهد العجيب، لا آبه حتى لصوت بكاء الجنين. كنت أظنّ أنّها تقطن في الطابق العُلْوِيْ، إلى أن وصلت وأدركت بأن جميع السكّان باتوا يقطنون في ما تحت السّفلي.

اسندت رأْسها إلى فخذيّ الملتويين، وتمدّدتْ أمامي، وبدأْتُ أمسحُ جراحها وأنا أطَبْطِبُ على خدّيْها وهي تُبعِدُ رأسها وتُديرُ وجْهَها، مغمِضةً عينها، وكأنّها لا تريدني أن أراها.

كانت لا تخرج من منزلها إلا بعد أنْ تُرطّب شفاهها وتسرّحَ رُموشها وتمسحُ خدّيْها باللّوْنِ الورْدي.

ولم تنسَ يوماً المرور من عيْنيْها الواسِعتيْن بقلمها الكحليْ، بدا كتوقيعٍ للوحتها التي رسمها خالقها سبحانه.

تمشي واثقةً، والكبرياءُ يملأ كيانها الأُنثوي. كانت لا ترضى أن ألتقط لها صورةً، وإن فعلتْ، أعادتني إيّاها ألف مرّة، إلى أن تُعجبها.

اليوم، وهي بين ذراعيْ تتنهّدْ، وبين كفيّ تنزِفْ، لم ينزف منها ذلك الكبرياء لحظةً! بل نزفت دموعي التي لامست خدها فامتزجت بخدوشها حتى أحرقتها، فأخذت توبّخُني…

تسألني عن كُحلِها وعن رمشها وعن وجهها؟! تسألني وأنا أضحك وأبكي، أضحك على وعْيِها في صلب هذا الألم. وأبكي لتصنّعها الذي يخفي وجعا وهزلاً.

إنّها تكابِرْ!! لا تريد منّي أن أرى ضعفها وهزلها بعد أن عاشرْتُ عُنْفُوانَها.
ثم تستسلم وتبتسم سائلةً: "ماذا كُنتَ تقولُ لي إذا هممت إلى النّوْمِ قبل أن أُغْلِق؟ “
فابتسمت باكِياً، ثم أجبت: "أحبَك!".

فعقّبَتْ: "والآن قد تعبت وأريد أن أنام، فعاجلني بها قبل أن أُغْلِقْ".
فزادت دموعي انهماراً، وشهقت متألّمّاً: "أحبًك... أحبك!".
فأكملت ابتسامتها الهزيلة، وأدارت رأسها، وأخذت تغفو بهدوءٍ وصمتْ.



أضف تعليق



التعليقات 11
زائر 1 | 8:18 ص ألاحظ أن أبناء سوريا دائما مايقصون عن الدمار والحروب.. رد على تعليق
زائر 2 | 10:06 ص رائعة جدا و تتميز بتوصيف الحركات واللفتات بدقة عالية مما يؤدي إلى رسم أو تخيل المشهد في ذهن القارئ بدرجة كبيرة. رد على تعليق
زائر 3 | 3:36 م وصف رائع لقصة حزينة .. رد على تعليق
زائر 4 | 5:25 ص قصة جميلة ومشهد رائع التوصيف ودقيق
مناسب لمشهد حي رد على تعليق
زائر 5 | 1:49 ص مبددددعععع رد على تعليق
زائر 6 | 11:53 ص رائع جداااا رد على تعليق
زائر 7 | 10:27 م رائعة جدا رد على تعليق
زائر 8 | 3:35 ص قصة مؤثرة و جميلة رد على تعليق
زائر 9 | 3:51 م قصة رائعة لكاتب صدق في احاسيسه وعبر باختصار عن خسارة حبيب... رد على تعليق
زائر 10 | 7:32 ص رائعة ابن عمتي رد على تعليق
زائر 11 | 11:24 ص هذه القصة رغم بساطتها إلا أنها تحتل القلب من أول سطر، أحسنت اختيار البداية و وفقت في الخاتمة، عندما كنت أقرها ثمة موسيقى كانت تنبعث معها و كأنها أغنية... رد على تعليق