قصة قصيرة... أغنية الحبة الصالحة
حسن عبدالحميد حجاج - قاص مصري
تنظم كل شيء ليلة السوق وتقول: "يقولون دوماً إن الإنجاز منتهى قطرة النباهة. إن زاد إنجازي تفصدت نباهتي رزقًا، ومن يعرف؛ قد أقدر غدًا على ملء بطن منزلي بأكوام الذرة والعدس والرز".
تفلي جوال البطاطس من الحبات المتعفنة وتفكر: " للحبة الصالحة ميزان وأناس يقبلون في أول السوق بثياب نظيفة وسميكة ونعال لها حسيس طيب، متقوية على التراب والرطوبة والماء المترب، هؤلاء أبناء الناس، هؤلاء ورثة الظالم قارون. تختوص أصابعهم المسابح الحسينية الخضراء المباركة، وتلتف حول مرافقهم ساعات ذهبية، كلون خلخالي الذي كان ينعم بقرب كعبي قبل أن أخلعه بعد ميتة الفقيد الراحل".
تتمخط وتبصق ثم تسترسل: "لا اطمئن لهؤلاء ولا لأبنائهم. خلابيس أبناء خلابيس، يحلقون الشارب علامة الرجال الحقيقيين ويتنمصون كما تتنمص المرأة ليلة زفافها، يتخلل فصالهم في البيع والشراء تبجح يقارب الدعوة إلى المنكر".
ترقد وتفكر: "والحبة المعطوبة لها ميزان وأناس يقبلون آخر السوق. يبتاعون بكلام حبيس، ويذهبون كما أتوا مثقلين بمعرة الثوب واللقمة والكلمة".
يتتدلل عليها النوم، فتتدلل على الله باسم النبي وتدعو: "اللهم لا تجعل هيئتنا مغسلا للعنات البشر، ولا تجعل أرضك تتقيأنا بعد موتنا كما تفعل مع السيئين".
تستيقظ قبل أن يتشبع رأس الفجر بماء البحر الأزرق. تفت الفتيت في الحلة النحاسية، وتغمره بماء السخينة السخي بشوائب اللحم. توقظ صغيرها ليأكل. يصلى أولاً ويسأل الرحمة لأبيه المتوفى.
تراقبه وهو يمصمص أصابعه وتفكر أنها لو فعلت ما تفعله العاهرات؛ سيضربونه على عنقه، ولو رد الضربة بالضربة؛ سيصرخون في وجهه: "يا ديوث، يا ابن العاهرة". عليها أن تصبر وتتخصل بحكايات الطيبات. ستموت جذوة الأنوثة فيها بعد شهر أو شهرين، عام أو اثنين، وتبقى السيرة المكدورة والعار المبثوث، حية كانت أو ميتة.
ترمى بجوال البطاطس - المقسوم من الداخل إلى قسمين كحال الناس في الدنيا - على كتفها الأيسر. تمسك بقفص الدواجن بيد وحزم البصل بيد أخرى. يحمل الصغير أكياس الليمون الأخضر والنبق والبطاطا. يركبان العربات المعتادة. يصلان السوق ويفرشان.
تعبئ المنديل القطني بالجنيهات الورقية أو المعدنية اللامعة كجمر الجميز. يطويان جوال البطاطس الفارغ.
تبتاع السمك من السمّاك. تقايض دجاجة بمش أبيض من اللبانة العرجاء التي فقدت ابنها الجندي الذي فصل الإرهابيون رأسه عن جسده، وصوروا ذلك ونشروه في شبكات الإنترنت، التي لا تعرفها ولن تعرفها حتى تموت، حتى يبينوا للعالم أنهم جادين للغاية هذه المرة في إقامة شيء له معنى، تقايض دجاجة أخرى بخلطة حلف البر بالينسون والقرفة وحبة البركة من العطار الزنجي، كريم العينين.
تلعن صهد الشمس الذي لا يرحم، وتداعب أنف صغيرها؛ فيضحك. تدعو له بطول العمر وبمستقبل أفضل. تتوعد في سرها البصل الذي صنن بالرمي للدجاج. تعدل من وضع العصابة أعلى جبهتها. وتحضن الصغير بقوة أكبر قليلاً.
يركبان عربة الرجوع. يدفع لهما شخص لا تعرفه الأجرة. ترفض، وحينما يصر ويذهب؛ يتلعثم الشكر في فمها وتدعو له وتفكر: "الناس أخياف؛ منهم من هو كالقمح، ومنهم من هو كالحلفا".
يرجعان. ينامان. تصحو سريعاً لتفكر، وتحرث سهل الرغبات الأخضر: "من لي بخروف أدس في جوفه أجولة الحشيش والتبن ويدس لي أرطال اللحم العذب ليوم الضيق؟ من لي بأرانب ودجاجات جديدة أربيها عوضًا عن تلك التي بلعها وباء الدواجن الأصفر؟ من لي بجيران أسوياء يتركوني في حالي؟ من لي بطالع سعيد لصغيري؟ من لي بـــــــــــ