قصة قصيرة... السقوط لأعلى
محمد بوثران - قاص جزائري
قبل أن تطأ قدماه الجسرَ لأول مرّة منذ ثلاثة وعشرين عاماً، راح يسترجع في مخيلته صوراً عديدة لطفلٍ يحمل ملامحهُ، وندبة كالتي على شفتهِ العليا.
كان صباحاً دافئاً، أشعة الشمس تخترقُ سقوف البنايات العالية لتصلَ إليه متعبةً كدونكيشوت مراهقٍ يخترق جيشاً من طواحين الهواء الدّوارة، بيده سيف من نار، يحوّل كلّ ما يلمسهُ إلى شعلةً متوهّجة.
أمّا هو فكان يعبرُ الظّل أسرع مما يعبر مساحات الضوء التي تتخلّلها. ووحده الجسر كان في مواجهة الشمس، كأنّها تشرق من منبع وادي الرمال الذي يجري تحتهُ.
لطالما حاول إطالة النظر على حافة الجسر دون أن يصاب بالدوار، لكنّه يسحب رأسه خائباً كلّ مرة، حتى في وداعهما الأخير الذي ظنّ أنه سيمنحهُ شجاعة أكبرَ ليودّع الصخور البازلتية التي تحرس مجراهُ منذ الأزل... وجد نفسهُ ينسحب مفجوعاً كمن استيقظ على كابوس مرعب.
الآن، وقد كبُر لم تعد الجسور تُرهبهُ، وهو يسترق النظر من علوّ شاهق إلى عشبةٍ نبتتْ في الظلّ الأزليّ لصخور الوادي الكبير، ولم يعد يعتقِدُ في سرّهِ أنّ الشمس تطلع من النبع البعيد لوادي الرمال عند سفوح جبال الأوراس التي تكسوها الثلوج أشهر الشتاء. حيثُ تُخبز ككسرة كبيرة قبل أن تُلقيها يدُ الله في السماء.
هنا تماماً، قبل أكثر من عشرين عاماً، وقفا.. يلتقطان أنفاسهما بعد سباق ماراثونيّ بين أزقّة قسنطينة الضيّقة، يودّعُ أحدهما الآخرَ:
- كِي تَرْجَعْ منْ فرنسا... ما تَنساشْ تجيبْلي البارْفَهْ اللِّي متْوَالفْ يجيبلْنا عمّي أحمدْ.
- وأنت تاني... لازم ترسملي قنطرة كيما موالف.
يُقال إن الرسّام الجيّد هو الذي يرسم الأشياء التي لا يفهمها في محاولة فاشلةٍ لفكّ أسرارها، فكيف بمن أمضى عمرهُ فوق أطول جسرٍ صخريّ في العالم لا ينفكّ يرسمه، أم أن أقرب الأشياء إلينا هي الأكثرُ غموضاً، ومن يدّعي فهم ما يحيط بهِ سيجد نفسهُ يوماً ما أخرسَ أمامه؟
للجسر ضفّتان لا غير، هكذا اتّفق الجميع، لكنّ قوانين الطبيعة لا تعترف بسطوة الأغلبية، هناك حالات شاذة دائماً... كما هناك ضفة ثالثة لأيّ جسر، لا يُمكن بعدها الرجوع إلى الضفة الأخرى ثانية، لأنها طريق ذو اتّجاه وحيد.
"مالك"، كان يرفضُ دائماً أن يرسم الوادي في لوحاته، ويعلّل ذلكَ أنّه لن يرسم إلا الأمكنة التي يستطيع تحسّس ملمسها بيديه، أو الركض فوقها، أو نفض غبارها عن حذائه. بل كان يشعر دائماً أن الوديان التي تقطعها الجسور مجرّدُ لوحات معلّقة في الفراغ، ولا يُرضيه أن يرسم لوحة أخرى داخل لوحته.
لذلك عندما أخبروهُ أن قنطرة سيدي راشد، رفعتْه للسماء، لحظةَ ارتطمَ جسده النحيف بالصخور التي كانا يطلّان عليها معاً، ويبصقان في الهواء محاولان إصابتها وحين ينجح في ذلك أحدهما تملأ صيحات النصر المكان... لم يتعجّب.
أخرج من جيبه زجاجة العطر التي كان سيهديها له، وقذفها في الهواء، محاولاً تخيّل ذلك الجسد الطريّ الذي لم يجد غير الجسر طريقاً يصعدُ للسماء.
- عذراً نيوتن... لكنّ الجاذبية تتلاشى أمام من نحبّ، هم فقط يسقطون لأنّ الجسور المعلّقة بين ضفّتين، وآلاف الذكريات... هي أقرب الطرق التي تنزل بنا صعوداً.