العدد 5259 بتاريخ 29-01-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... ماذا بقي لدى عبدالباقي؟

زينب سعيد سلمان - قاصة بحرينية

جفاني النوم وباغتني السهاد، لذا ها أنا أنتزع جفني بصعوبة من ثقل ليلة اخترق ستارها الأسود فرقعة القنابل وثقب طبلتها أزيز الرصاص.

لكن الصباح كان هادئاً، تسلل لمسامعي مواء سوسو، ممتزجاً بشقشقة العصافير التي استوطنت نخلة أستظل بفيئها. تمطقت الشاي، وأنا أحدق في الموجات الصغيرة التي تصدرها ريح محملة بندى شفيف، ويعانقها النهر المترنح.
كان أبي عبدالباقي واجماً، يتمعن بنخيله:
- أخشى أن تموت آخر أمنياتنا التي نجت.
- هل تتوقع ذلك؟ لقد أرّقني أزيز الرصاصات ليلاً.
أخذ عصاه متكئاً مطأطئاً الرأس.
إنها أشبه بنبوءة رجل وحيد، عالق بين طبول الحرب وصمت وحدته. وجهه مجرد من الملامح عدا شارب يتوسط أنفه الأفطس وشفتيه المتقرحتان.
خفق نعلي أبي عبدالباقي يناديني، خرجت لأتتبعه فما دلتني عليه إلا خطوط متعرجة شقتها عصاه في التراب، فتتبعت أثرها.
يبدو أن نبوءة أبي بدأت تتحقق، كلما اقترب من باسقاته عادت زمجرة محركات صدئة، بعثت الشؤم في نفسي. هل ستبتلع أمنياتنا التي نجت؟
أخيراً وجدته يتكئ على إحدى نخلاتنا الباسقة التي أطلعني على صور تخصه وهو يغرسها حباً مع والده، لم أكن أميز الملامح التي ارتسمت في تلك الصور الفوتوغرافية، كونها داكنة جداً يشوبها السواد أو قل الرمادي الداكن. العلامة الأبرز التي كانت رموزها واضحة بعمق الصورة هي تلك النخلة فقط!
التفت لي أبي عبدالباقي، بدأ يتلمس النخلات، الواحدة تلو الأخرى.
أومأ لي لأرفع الخشبة عن مجرى قناة الري، فينساب الماء. كأنه يعلم بأنه سيقدم قرابينه إليها قبل أن يؤول مصيرها إلى الاحتراق. يصافح عذوقها التي لن تلفحها حرارة رمضان القادم.
"يرويها" ماء قبل أن تموت... "يرويها" حكاية أسطورية للأجيال القادمة.
الجرافات تتقدم، تتصحر البساتين، لكن أبي عبدالباقي يصر على سقياها وفياً ككل فجر يطلع.
لم تكن التجاعيد تشق وجهه ككل مرة، ابتسامته هي الغالبة... لم تكتف بشق ملامحه بل حفرت وجهه حفراً.
لم أعهد مثل تلك الابتسامة من قبل، كان أثرها على وجهه أقوى من أثر تلك الابتسامة التي ارتسمت يوم استشهاد عمي ضرغام في الحرب، لم ينكسر رغم اشتعال رأسه شيباً. وكأنه لا يعي ما يدور في الحرب.
-  أبي عبدالباقي... تتقدم الجرافات يا أبي!
يسقيها ساهما.
إنه الغروب الأخير لعثوق البرحي. كان الحاج عبدالباقي يثور صامتاً على الحرب... على قرار قلب بساتين الباسقات ساحات وغى!
تقدمت الجرافات الصدئة، اقتلعت ما تبقى من أحلامنا الناجية
-  أبي ... أبي ...
غمغم بدعاء مبحوح.
-  الجرافات تتقدم يا أبي تشق الطريق نحوها... تكاد لا تفرق بيننا نحن البشر وبين عثوق البرحي.
زم شفتيه.
-  الجرافات تباغتنا من كل الجهات يا أبي.
ربت على كتفه، عانقته... فرفع رأسه نحو السماء.
مع غروب آخر شمس يعانق شعاعها البرحي، غرب الضياء الذي يعج داخل أبي.
في أصبوحة اليوم التالي... تهافتت علينا وسائل الإعلام لتغطي الخبر قبل غيرها:
-  ماذا بقي لدى عبدالباقي؟ 

 



أضف تعليق



التعليقات 2
زائر 1 | 6:34 ص كلمات رشيقة وقصة معبرة رد على تعليق
زائر 2 | 8:44 ص قصة جداً جميلة رد على تعليق