قصة قصيرة... الجنة تنادي
شيماء بنتهاين - قاصة مغربية
لم تكن حلب هادئة كتلك الليلة، ولم تكن بشدة ذلك الحنان يوماً، وكم كنت سعيدة بالزّيّ البرتقالي الذي خاطته أمي الحبيبة، ليلتها نمت كأن الغد هو يوم العيد، وفي الصباح الباكر طرحت السؤال، هل العيد سرق مني إخوتي؟ هل العيد هدم حيطان بيتنا الصغير؟
كان الظلام دامساً جداً، أصبت بالهلع، ولم أتمكن من تحريك جسمي الصغير، بعد لحظات أخرجوني من تحت الركام، فوجدت أمي تبكي وترطم وجهها، وكانت هي الأخرى مكسوة بالطين والتراب، وملطخة بالدماء، فما إن رأتني هُرعت إلى حضن جسدي، ثم تركتني وبدأت تهرول هنا وهناك، وهي تبحث عن إخوتي صائحة: "أولادي راحوا !، أولادي ماتوا"، وأنا وراءها أخطو كلما خطت خطوتها البائسة.
لم ترض أمي أن نذهب إلى المشفى، لكن دمائي جعلتها تغير رأيها، وعيناها تحكيان عذاب فلذة كبد عظيم، عين تحكي آلام طفلة لا تفقه شيئاً، وعين تحكي آلام فراق أبناء أحسّت به منذ قليل، فبدأت تصيح ثانية في السيارة:"أولادي راحوا! أولادي ماتوا!"، فقال رجل كان يجلس بجانبنا:"إنهم في الجنة لا تقلقي"، استغربت لكلامه، وطرحت عدة أسئلة، ولم أجد جواباً، ثم نظرت حولي، وقلت بصوت خافت:" هل الجنة بها أيام سيئة يا ترى"؟
وصلنا إلى بناية خفت أن أدخل إليها، فأمسكت بجلباب أمي راجية الذهاب إلى حيث لا توجد المباني، وطرحت السؤال مجدداً: هل توجد مبانٍ في الجنة؟"، فابتسمت في لحظة خوف ودخلت. وضعوني فوق سرير غريب، وكانت أمي تقف أمامي مباشرة تجيب عن أسئلة لم أعد أتذكرها، بعد ذلك فحصني شخص ما وذهب، فبدأت أمي تصيح مجدداً:" "أولادي راحوا! أولادي ماتوا!"، فنادتها سيدة برفقة طفلين صغيرين، ثم سألتها إن كانوا أبناءها، فنفت وتابعت الصياح والعويل. حينها لم نجد أحداً يشاركنا آلامنا غير جارنا محمود، الشاب الصغير، الذي بكى وصمد في وجه هذا المصير، وهو حامل بين ذراعيه أخاه الرضيع الذي لم يتجاوز عمره شهراً واحداً.
كانت السيدة التي سألت أمي عن الطفلين الصغيرين لا تزال تجوب أروقة المبنى باحثة عن أمهما، فأبوهما قد شقت عظامه تلك المباني المهدمة، بعد لحظات، أمرتهما بالجلوس في زاوية لم تكن بعيدة عن زاويتنا، ثم رحلت في صمت.
كان يبدو أن الجميع ينتظر، فانتظرت أنا الأخرى، لكن ما الذي ننتظره؟ فطرحت السؤال: "هل ننتظر أن تفتح الجنة أبوابها"؟ قاطع تفكيري رجل أخبر أمي أنهم عثروا على جثة طفل ربما يكون ابنها، فنهضت من جانبي بحنان جعلني أمشي وراءها كالمجنونة، فما أن وصلنا إلى الغرفة البائسة، اتكأت ثم أبعدت الغطاء عن وجه الجثة، فإذا بها ترتعد بكل الجسد الذي تحركه روحها الميتة.
رجعت إلى مكاني بغية إغماض عينيّ، والحلم بالجنة التي أحببتها منذ هذا الصباح، حينها بكيت أخيراً على فراق أخٍ دافع عني كلما ضربني جارنا موسى، آه كم كانت ابتسامته مؤلمة في تلك اللحظة.