العدد 5258 بتاريخ 28-01-2017م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... المبنى الأصفر

علي فتحي - قاص مصري

لا يزال كما هو، على رغم أن صفرة الجدران قد أصبحت قاتمة من تراكم الأتربة، إلا أن ما يحسب لهذا اللون هو صموده كل هذه السنين على هذه المدرسة... وقفتُ أمامها، رحتُ أتذكر، كل شيء، عندما قمت بالتحويل إليها، بعد محاولات مستميتة لإبقائي في المدرسة التي بنيت حديثاً بالقرب من منزلنا، محاولات مستميتة من الجميع، حتى الحكومة، حاولت إبعادي عن مدرستي الحبيبة هذه، فرضت على كل شخص القيد في المدرسة التابعة لمنطقة سكنه. وهكذا تم نقلنا إلى المدرسة الجديدة، بعد أن أمضينا عاماً هنا. وعلى رغم أن المدرسة الجديدة تقع وسط القرية، وتحيط بها الأشجار والنخيل من كل جانب، إلا أنها من الداخل تبدو كصحراء جرداء، لا ورود، لا أشجار، لا عصافير، فقط ملعب تغطيه رمال صفراء يحده سور أنيق، وجديد لكنه بلا روح.

أما هذه المدرسة القديمة، الحبيبة، ذات الجدران الصفراء الكابية، فتبدو مثل حسناء وسط وحوش. فريسة وسط غابة من العمارات والأبنية الخرسانية في قلب المدينة، إلا أنها من الداخل واحة خضراء، بها حديقة غناء تحوي مختلف أنواع الأزهار الملونة والنباتات الرقيقة... كنا نستمتع بالجلوس على مقاعدها الخشبية في حصة الزراعة، وفي حصة التربية الرياضية كنا نستمتع باللعب في ملعبها المزروع بالنجيلة الخضراء والمحاط بأشجار الكافور الشاهقة التي تمت زراعتها منذ إنشاء المدرسة.

عندما توجهت للناظر طالباً أن يسمح لي بالتحويل إلى مدرستي الأولى، اغتاظ بشدة، فهو يعتبر المدرسة القديمة منافسة له، لذلك أمر بشراء مكبر صوت لكي يرتفع صوت الإذاعة المدرسية ويصل إلى مسامع من في المدرسة القديمة كنوع من التحدي والرد على صوت إذاعتهم الذي يصلنا في الطابور، لكن عندما رأى في عيني الإصرار، استسلم بغضب: هات ورقة بإمضاء ولي أمرك!

عرضت الموضوع على والدي، رفض بشدة، وكان ذلك مع نظرات استحقار وكلمات مغموسة في البصاق.  أصر على أن أبقى في المدرسة الجديدة الفخمة، لا لفخامتها وأناقتها، ولكن لأن المدرسين الذين يعملون بها معظمهم من أقربائه وسيقفون معي في الشدائد الامتحان.

قمت بتزوير إمضاء والدي... وكانت هذه أول جريمة تزوير أرتكبها في حياتي.
كعصفور فر من القفص... طرت إلى مدرستي الحبيبة... لم أنتظر حتى اليوم التالي.
فوجئ المدرسون، لم أتوقع أن يثير الأمر علامات استغراب هنا أكثر مما أثار في المدرسة التي هربت منها، أصبحتُ حديث الجميع، كل مدرس يأخذني على جنب ويسألني عن سبب تحويلي... كانوا يكررون الكلام نفسه والأسئلة نفسها، لماذا تركت مدرسة جديدة فخمة بمقاعد حديثة بها أدراج مزودة بأقفال يمكن ترك الكتب بها وعدم تحمل عناء حمل الحقيبة الثقيلة كل يوم، كيف أتركها وآتي إلى هذه المدرسة ذات المقاعد المتهالكة والجدران المشروخة؟
كانوا يتحدثون جميعاً عن أمور مادية بحتة:

المقاعد، الأناقة، السبورات المتقدمة، السلالم غير المكسرة، الفصول الكثيرة التي تقضي على التكدس.

ولم أكن لأستطيع أن أقول لهم السبب الحقيقي وراء تحويلي، لأنه شيء أبعد تماماً عما يتحدثون عنه، إنه شيء روحي... سامٍ... رفيع، حتى أني كنت أخجل من ذكره. إنه حنيني لأصدقائي وعدم قدرتي على الابتعاد عنهم!

ثلاثون عاماً مضت على صداقتنا في هذه المدرسة.  ها هم أصدقائي الآن يضربونني من وراء ظهري، ها هم الآن... أصبحوا أعداء!



أضف تعليق



التعليقات 1
زائر 1 | 1:50 ص ظاهرها يبدو كقصة بسيطة وباطنها يحمل الأعمق .. أعجبتني رد على تعليق