قصة قصيرة... ألزهايمر
فاطمة عباس أحمد - قاصة بحرينية
تعمدُ إلى ركنٍ قصي، تبثُّ فيه أوجاعك إلى الله.
مؤلمٌ أن تخونك الذكريات بعد أن رُدِدت إلى أرذل العمر، مؤلمٌ ذاك الحديث الذي تضج به خلايا دماغك، مؤلمٌ أن يردك شريط الذكريات -الخائن- إلى لحظة الفقد تلك؛ تجرعها مريرةً بدلًا من قهوة صباحك، وكأن مرارة قهوتك لم تكن تكفي.
تكاد تصرخ في وجه المارَّة: أعيدوا طفلي، نسيته جالسًا هناك، تجد نفسكَ عالقًا في منتصف الصرخة. لله ما غصت به الحناجر وما تخفي الصدور.
مذ غزا مرض الذاكرة خلايا مخك، تلاشت لديك قيم الزمان كما تلاشت قيم المكان.
تائهٌ في الشوارع، عاجزٌ عن تذكر أي شيء، تذكر فقط ضياع أكبر أبنائك -أم كان أصغرهم؟- البارحة - أم أن ذلك حدث الشهر الفائت؟-، ولأنك لا تدرك للزمان معنىً؛ فقد نسيت أنه خُطف منذ ما يربو على العشرين عامًا، تمامًا مثلما نسيت أن بدرًا كان ابنك الوحيد.
تعبٌ أنت، تاهت فيك الشوارع، قدماك ورمتان لفرط ما دست عليهما.
تأوي إلى أحد الأرصفة تفترشها، تتوسد حزنك وتلتحف السماء.
تقضي الليل ممعنًا في النجوم حتى يتنفس الصبح، وتنسى هل أخذت قسطًا من النوم، أم أنك لم تفعل؟ لا شيء من ذلك يهم.
تنهض كي تبدأ رحلتك اليومية جائبًا الشوارع، يستوقفك سلوك أحدهم. يبدو تائهًا، ويبحث عن مفقود -مثلك- تستدير لتحادثه فتجده يستدير كمن يود مخاطبتك.
تفتح فاك مستجديًا الكلمات، تود سؤاله: هل تبحث مثلي عن قطعٍة من روحك؟
ولأنك لا تعي أن ذلك الرجل ليس سوى انعكاس لصورتك على واجهة إحدى المحال التجارية؛ تستشيط غضبًا جراء سلوكه الطفولي إذ يحاكي كل حركاتك وسكناتك.
تهرب منه مسرعًا، تجده يجري بمحاذاتك... الآن اختفى. حمدًا لله.
تواصل سيرك، تعترض طريقك إحداهن، تصرخ باكيًة: أبي.
تُمعن في تيهك... لقد دعتك أبي!
تستطرد تلك الفتاة:" وين كنت يبه؟ صار لنا أسبوع ندورك!"
ولأن ابنتك على وعيٍ بعجزك عن الإجابة، لم تنتظرها منك على أية حال.
صحبتك إلى السيارة، كان برفقتها رجل لم تعرف من يكون هو الآخر.
صِرتم إلى منزل واسع، لم يكن بوسع شارعك طبعًا.
يرافقك ذلك الشخص-الذي وافقت يومًا على تزويجه بابنتك- كي تأخذ حمامًا دافئًا ؛عله يزيح عنك عناء نفسك.
يسبغ الماء على جسدك، لم تكن عاجزًا عن نسيان ملمس الماء منسابًا على بشرتك، تسقط عيناك على المرآة فترى ذلك التائه مرةً أخرى، تصرخ خائفًا، متمتمًا بكلمات فقدت ترابطها اللغوي: "هذا -شارع - ضايع".
يجيبك مرافقك ظنًا منه بأنه فهم ما تعنيه: "ما يخالف عمي لا تخاف، ما صار إلا الخير".
تتم حمامك، تدلف مع -مهما كان اسمه - إلى غرفة الطعام، تلقمك ابنتك طعامًا تدفئ به برد معدتك، ناسيًا رحلتك بحثًا عن ابنك في منتصف التيه.
تخلد إلى النوم مفترشًا سريرًا وثيرًا، حتى أنك نسيت أن تتوسد حزنك ليلتها! فرحٌ بأولئك الذين استضافوك في منزلهم الليلة.
في زاويةٍ أخرى من المنزل، ابنتك غارقٌة في حزنها:" "أخاف يضيع يوم وما نلقاه! كفاية هالمرة أسبوع ندوره من مكان للثاني. اتصل في أختي أقول لها دوري وياي تقول مو فاضية! شغلها صار أهم من أبوي المسكين اللي ما عمره بدّا شي علينا أيام صحته!"
يجيبها زوجها: "لا تحاتين أبوج، ما بيصير الا المكتوب، كتبة الله كلها خير".
قدر الله جميل، والله ألطف بعباده من أنفسهم.
قدر الله هو الذي أعادك من ركنك القصي في ذلك الشارع إلى غرفتك في منزل ابنتك.
يتناهى إلى مسامعك صوت الأذان، يداعب أوتار قلبك.
تنهض من نومك مطمئنًا، تتوضأ مرارًا استعدادًا للصلاة.
تفرش سجادتك آملًا أن يجعلك ربك من أولئك "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون".
بدا أنك اعتدت نسيان كل شيءٍ، وفقدت الإحساس بالوقت؛ إلا عند الصلاة، ذكرت الله يا عمّ فذكرك.