كيف نظر الفقراء إلى جمال عبدالناصر؟
الوسط – محرر منوعات
تباينت رؤى المؤرخين لثورة 23 يوليو ما بين مؤيدين لها يرون أنها حققت الكثير من المكتسبات للشعب المصري، ومعارضين يرون فيها سبباً مباشراً لعدد من الكوارث التي شهدتها الدولة ولا تزال آثارها مستمرة حتى الآن. ولكن ماذا عن أبناء الطبقات الشعبية، أو المهمّشين؟
السؤال تنبع أهميته من أن هؤلاء المهمشين هم الذين عايشوا الثورة بحُلوها ومرّها ولم يروها من نوافذ مكاتبهم، أو من خلال مراجع وكتب طلاها أصحابها باتجاهاتهم وانحيازاتهم الفكرية والأيديولوجية ومصالحهم الشخصية، حسبما قال موقع "رصيف22".
يرصد كتاب "التاريخ الشعبي لمصر في فترة الحكم الناصري/ رؤية جديدة من وجهة نظر المهمشين" لخالد أبوالليل، أستاذ الأدب الشعبي في جامعة القاهرة، آراء عدد من المهمشين والبسطاء الذين عايشوا محطات الثورة الرئيسية.
وقال أبوالليل لـ "رصيف22" إن الدراسة المذكورة سعت إلى استثمار علم التاريخ الشفاهي في محاولة وضع تاريخ شعبي موازٍ لمصر في فترة تاريخية هامة، حتى لا تنفرد النخبة بكتابة التاريخ على النحو الذي ترغب فيه.
وأشار إلى أن هنالك مؤرخين عديدين عالجوا ثورة يوليو وما أعقبها من أحداث من منطلق التأريخ للقادة وللأفراد، مع تهميش العامة والجماعة الشعبية، وهذا التاريخ غالباً ما يكون محاطاً أو واقعاً تحت تأثير السلطة الحاكمة وقد يقع في فخ التوجيه لمصلحة تيار معين.
وقام فريق عمل الدراسة بمقابلة المبحوثين في مناطق مصر المختلفة، خاصة تلك التي شهدت أحداثاً هامة في فترة الحكم الناصري مثل سيناء ومدن القناة وأسوان وبورسعيد وغيرها.
وشرح أبوالليل: "راعينا أن تكون المادة التاريخية المسجلة من مبحوثين أميين، أو على قدر ضعيف من الثقافة والتعليم ممن عاصروا الأحداث، وذلك لتكون المادة المسرودة منقولة بالسماع والمشافهة، ولكي نعرف وجهة نظر البسطاء عن هذه الفترة التاريخية".
وفي الآتي من الموضوع عيّنة من شهادات المبحوثين حول بعض الأحداث الهامة:
أسباب الثورة
قال سيد عناني من المنيا إن سلوكيات الإنجليز وتصرفاتهم في الشارع لم تكن مقبولة، كما أن الفساد تفشى في القصر الملكي، علاوة على ازدياد حالات الفقر مقابل ازدياد غنى الأغنياء وتراجع دور حزب الوفد وتصاعد حركة "الإخوان".
وأشار محمد عبد الحميد حمدين، من قرية طناش بالجيزة 6 أكتوبر، إلى أن أجر العامل اليومي كان 17 قرشاً فقط في الوقت الذي كان الإقطاعيون يملكون آلاف الأفدنة. ففي كوم أمبو بأسوان كان هنالك إقطاعي لديه 500 فدان في الوقت الذي لا يملك فيه فلاحون كثيرون قيراطاً واحداً.
الإقطاعي الذي يعمل لديه، ويقوم على خدمته في الحقل والمنزل معاً، بحسب عبدالقوي معوض من الفيوم.
وكان أصحاب الأراضي يماطلون في إعطاء الفلاحين أجورهم، ولم يكن الفلاح يملك أن يرفض أمراً لواحد منهم، لأن ذلك سيعرضه للإهانة الكبيرة، كما روت نعيمة عبدالحميد اللبان من قرية طناش بمحافظة الجيزة.
ولفت توفيق مهدي سليمان، من قرية طناش بالجيزة، إلى أن الفلاحين كانوا من شدة الجوع يأكلون بعض الحشائش الخضراء بعد طهوها مثل نبات "السلق"، وبالتأكيد كانوا لا يعرفون مذاق اللحم.
وشارك الإنجليز الأغنياء في إيقاع الظلم على الفقراء عامة والفلاحين خاصة، من خلال السيطرة على انتاجهم بأبخس الأسعار، برأي محمود سليمان السواركة من العريش.
الإصلاح الزراعي
في 6 سبتمبر 1952، قرر مجلس قيادة الثورة تطبيق قانون الإصلاح الزراعي للقضاء على نفوذ الإقطاعيين.
يروي المبحوثون أن المجتمع المصري كان مؤهلاً لتأييد هذا القانون، فقد كان المجتمع يسمى "مجتمع النصف في المئة"، لأن نصف في المئة فقط من السكان كانوا يسيطرون على 95في المئة من ثروات البلد.
وأشار عبد الوهاب يوسف، مزارع من مركز أوسيم بالجيزة، إلى أنه في العهد الإقطاعي تولدت مجموعة من التقاليد الإقطاعية الطبقية، منها أن الفلاح لا يستطيع أن يمر راكباً على حماره أمام أحد هؤلاء الإقطاعيين، بل لابد له من النزول والسير ماشياً وتقبيل أيدى الأغنياء.
لم تتوقف مساعدة عبدالناصر للفلاحين على مجرد توزيع الأراضي أو الأطعمة والملابس عليهم أو محاولة رفع أجورهم إلى 25 قرشاً، وإنما اتجه إلى رفع الظلم عن كاهلهم عبر إلغائه ديونهم وتلبية احتياجاتهم عبر الجمعيات الزراعية، كما قال عبدالحليم جاد سلامة من الجيزة.
وروى حسن محمد حسن أن الإقطاعيين رفضوا تنفيذ هذا القانون واصطدموا بالفلاحين على نحو ما حدث مع عائلة عدلي لملوم في مغاغة بالمنيا، عندما امتطى لملوم جواده مع 35 رجلاً من رجالاته وأطلقوا النار في الهواء اعتراضاً على إصدار القانون، لينتهي الأمر بالقبض على الرجل والحكم عليه بالسجن مدى الحياة.
وفي مدينة أوسيم بمحافظة الجيزة حدثت توترات بين أعيان عائلة غراب والفلاحين ما استدعى تدخل عبدالناصر فأرسل أنور السادات مندوباً عنه إلى القرية لفض النزاعات والتأكد من تسلم الفلاحين أراضيهم.
ولكن أحد المبحوثين أشار إلى أن هذا القانون لم يتم تطبيقه بالموضوعية الكافية، لأن الأراضي الخاضعة للاستيلاء بلغت 656.736 فداناً تخص 1789 مالكاً كبيراً ولكن جرى الاستيلاء على أقل من هذا الرقم. وأرجع ذلك إلى عوامل عدة على رأسها نص القانون الذي سمح لكبار الملاكين ببيع أراضيهم الزائدة قطعاً صغيرة لصغار الفلاحين بهدف الحصول على ثمن أكبر من التعويضات، كما أن كبار الملاكين أجروا عمليات بيع صورية.
تأميم قناة السويس
في 26 يوليو 1956، أعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية وترتب على ذلك دخول مصر في صراعات سياسية مع عدد من الدول.
وقال عناني إن تأميم القناة كان رداً لكرامة المصريين وثأراً للذين ضحوا بأرواحهم وماتوا أثناء حفرها.
وقال سيد جمال من الجيزة إن دخل القناة كان للأجانب في حين أن أصحابها المصريين كانوا مجرد موظفين عندهم وهو ما كان "عاراً في حقنا".
وفي المقابل اعتبر محمد سيد رمضان من الوادي الجديد أن قرار التأميم جلب على مصر أعداءً "وهو ما كنا في غنى عنه"، إذ كان يتبقى من عمر التعاقد أقل من عشرين عاماً وبعدها ستعود القناة إلى مصر دونما حاجة إلى مغامرة أدت إلى دمار مدن القناة وقتل للمدنيين.
وذكر ماضي أن المصريين بنوا في ذلك الوقت آمالاً كبيرة في تحسين مستواهم المعيشي بناء على هذا القرار وهذا لم يتحقق.
العدوان الثلاثي
ترتب على تأميم قناة السويس تحالف ثلاث دول هي بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في عدوان ثلاثي ضد مصر استمر 40 يوماً.
واجه الشعب المصري هذا العدوان ببسالة من خلال المواجهة الشعبية والاعمال الفدائية. "البورسعيدية ضربوهم بالفئوس، والنسوان كانت بتطلع بغطيان الحلل تدبح فيهم"، قال ماضي.
وروت سعاد عبدالعزيز حسن أنه على رغم المقاومة الشعبية الباسلة، قام بعض المواطنين المصريين باستقبال بعض الجنود الأجانب في منازلهم، مما اضطر الشرطة المصرية إلى اتخاذ قرار بالقبض على كل من استضاف أجنبياً في منزله.
السد العالي
تم البدء في بناء السد عام 1960 بتكلفة إجمالية قدرت بمليار دولار وافتتح رسمياً في العام 1971. وكان هذا المشروع سبباً مباشراً لدخول مصر في عدد من الصراعات السياسية على خلفية توفير مصادر تمويله.
قبل بناء السد العالي كان الفلاحون يعانون من الفيضان الناتج عن الزيادة في مياه النيل، وهو ما كان يؤدي إلى غرق المدن والقرى مما كان يضطر الأهالي إلى بناء سد خارج كل قرية حتى لا تدخل المياه إلى بيوتهم، كما روى سليمان.
وذكر عناني أن الأمر اختلف تماماً بعد بناء السد إذ أصبح الفلاحون قادرين على زراعة أراضيهم طوال العام، كما أنه حمى مصر من كوارث طبيعية كثيرة مثل الفيضانات.
وأشار سليمان إلى أن دور المصريين في بناء السد تمثل في الجهد العضلي في حين أن الجهد العقلي والتصميم كان من نصيب الروس، وأشار آخر إلى سقوط جرحى وقتلى من المصريين اثناء بناء السد بسبب التفجيرات التي كان يشهدها الموقع وكذلك الأحجار التي كانت تقع عليهم، بينما أكد الحاج صبري من الشرقية أن دور المصريين فاق ذلك وقاموا بدور كبير في استكمال السد خاصة بعد فقدان المصريين الثقة في الروس عقب نكسة 1967.
نكسة 1967
استعرض الكتاب شهادات عدد من الجنود الذين شاركوا في هذه الحرب. واعتبر محمد سعيد جمال من أسوان أن السبب الرئيسي وراء النكسة هو مشاركة الجنود المصريين العائدين من اليمن في حرب يونيو دونما راحة أو تدريب أو تأهيل نفسي جيد. وعلى حد قوله "جابوهم من الدار للنار".
وإذا كان مبحوثون كثيرون يحمّلون رئيس القوات المسلحة عبدالحكيم عامر مسئولية الهزيمة لأنه لم تكن لديه الخبرة الكافية لقيادة الجيش أو بسبب علاقاته النسائية، إلا أن الحاج سعيد من المنوفية استبعد أن يكون عبد الحكيم عامر قد تآمر على عبدالناصر أو خانه، مُرجّعاً النكسة إلى وجود جفاء بينهما بسبب ما حدث أثناء انفصال سورية عن مصر ورغبة المشير في التدخل المصري العسكري داخل سورية لتخليصه ورد اعتباره، في حين قاوم عبدالناصر تلك الرغبة لعدم قبوله رفع عربي لسلاحه في وجه أخيه العربي، ما أدى إلى انصراف عامر عن الاهتمام بالجيش.
وذكرت الحاجة أم هيثم من قنا حال المصريين إبان تلك الحرب وأثناء الغارات الإسرائيلية على بعض المناطق، وما كان يفعله المصريون من دهان للزجاج بألوان قاتمة واطفاء للأنوار وغير ذلك من حيل درءاً للخطر.
ترتب على تلك الهزيمة، كما قال يليمان، تكوين صورة سيئة عن الجيش المصري في ذهن المصريين مما أدى إلى تنكر الجنود من بدلاتهم العسكرية ومن انتمائهم لمؤسسة الجيش لأنهم وجدوا في ارتدائها مجلبة للعار عليهم.
وعبّر بعض مَن عايشوا الهزيمة عن مرورهم بأزمات طاحنة في الغذاء والملبس وعدم الأمان في الشوارع خاصة في الليل. وقالت سعاد إن كل أسرة لجأت إلى محاولة حل أزماتها بطرقها الخاصة، مثل تخزين الأغذية.
وتحدثت نعيمة عن غضب المواطنين من الحكومة بسبب عدم توافر مقومات الحياة الأساسية خلال فترة امتدت نحو عامين.
في المقابل، قرر موظفون في مؤسسات عدّة التبرع بجزء من راتبهم الشهري لمصلحة الدولة كي تتعافى مما أصابها ويتعافى معها الجيش المصري، حسبما قال محمد أحمد غزالي من السويس.