قصة قصيرة... اغتراب
صبا محمد حبوش - قاصة سورية
" لمَ أشعر بالضيق وعدم السعادة"؟!
كان هذا السؤال يؤرقه على الدوام، منذ اغترابه عن وطنه، ومنذ وطأ أرضاً جديدة، باتت تتعثر به السبل والطرقات، وجوه جديدة يصادفها كل يوم، بعضها يمر بسرعة، والبعض الآخر يترك أثراً بسيطاً، سرعان ما يتلاشى.
قام بمحاولات عديدة لجذب الآخرين بطِيبته ولطفه، تعامل مع الجميع كأصدقاء عمره، الذين ابتعدوا كالوطن، كان فقده كبيراً، لذا أراد أن يعوّض النقص بتكوين علاقات جديدة، وبما أنه ينتمي للفئة الطيبة، كان التفاؤل يلفّه كلما التقى مغترباً من أبناء وطنه.
شيئاً فشيئاً بدأت الغيوم الوردية تنقشع عن عينيه، على رغم الضجيج حوله إلا أنه وحيد، يحتاج كتفه لكفّ صديق حقيقي، يرمي له بعض متاعب الغربة وأحزانها، أو يمنحه بعض فرحها ومفاجآتها، لكن وقته غدا حقل راحة لكلّ مُجهَد، ووجد روحه غائرة في الطين، دون عون يمدّ له جسر نجاة.
بعد أيام من الحزن والضيق، قرر السفر لقرية مجاورة، سمع فيها عن رجل حكيم، يهدي القلوب التائهة لطرق السعادة والانشراح.
- ما مشكلتك يا بني؟
- فقدي كبير يا عماه، الغربة كسرتني، والوحدة عبّدت طرقاتها إلي، لدي أصدقاء كثر، لكنهم أبعد من تلك السماء، لا أجدهم حين ينبغي وجودهم، وحتى حين أبحث عنهم، أتعثر بأبوابهم المغلقة.
- مشكلتك صغيرة، والحل في دكان أبي نورس، في شارع المدينة، اقصده ولن تعود لي بإذن الله.
في اليوم التالي انطلق باكراً لشارع المدينة، قرأ عبارة كبيرة فوق الدكان "أبو نورس للأقنعة".
في الداخل أبهرته الأقنعة المرصوفة على اختلاف أشكالها وأحجامها وألوانها، مدّ يده للبائع بورقة كتبها الحكيم بخطّ يده، فناوله قناعاً متعدد الطبقات، أخذه وانصرف.
كان القناع متلوناً بتلوّن الأشخاص، ومدى قربهم أو بعدهم عنه، في بداية الأمر كان يجد صعوبة بإزالة وجه وارتداء آخر، لكن مع مرور الوقت أصبح ارتداء الوجوه جزءاً منه، أصبح انطوائياً أكثر، لا يفتح بابه إلا لمن يحتاج، وقته له وقبل الجميع، وعندما يشعر بحاجته للآخرين يقترب بقدر اقترابهم، لا يبتعد أو يذوب تماماً، أخرج طيبته وعفويته، وغلّفهما بقماش قطني ناصع، وأعادهما إلى قلبه.
مرّت الأيام ومضت يوماً بعد آخر، على هذه الحال، وجد اغترابه الداخلي أكبر فأكبر، كان سعيداً في البداية، لا يعلم كيف عادت الأمور بصورة أسوأ مما كانت عليه، تلك الأقنعة لا تشبهه في شيء، تحاصره جميع الصور، فيشتاق لذاته الأولى، يشتاق لأصدقاء الحي وعفويتهم، يشتاق لمن يفتح له أبواب قلبه المغلق كالسجن، يخفي خلفه غرفاً رطبة، ونافذة صغيرة لدخول الهواء الذي يرقص على عفونة الجدران المشبعة بالوحدة.
لم يعرف الدمع طريقاً إلى عينيه منذ وطئت أقدامه هذه الأرض الغريبة، لكنه الآن يبكي كل شيء تركه خلفه، وكل شيء فعله بغير قناعة ليرضي الآخرين.
أسرع لخزانته مخرجاً جميع الأقنعة، مزّقها بحنق، وكأنه ينتقم من غربة حرمته ذاته، نثر رفاتها من أعلى النافذة، فتطايرت كخفافيش تحتضر، التقت عيناه بانعكاس وجهه في المرآة، فابتسم لحقيقته، سيكون له في يوم من الأيام من يحبه بصورته هذه، ولن يضطر لزيارة أبي نورس مرة أخرى...!