العدد 5226 بتاريخ 27-12-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... البلدة

عبدالحكيم هرواشي - قاص مغربي

كل الّذين وُلدوا في تلك البلدة البعيدة المعطوبة إلى حدّ الشّفقة وُلدوا في فوضى الصّدفة المُفجعة الّتي صرفتْ نظرهم عن واقع خارجي وحياة حضريّة دُفنتْ في خيالهم البدوي اليائس المطوق بأعرافهم وتقاليدهم وشهيتهم في الانعزال. ولم يكونوا، لسبب غامض، قادرين على الخروج من دوّامة البلدة، وتجاوز الجبال الشامخة الّتي تلوّح قممها السبعة من بعيد، كأنّها تعلن التحدّي، بغطرسة تربتها، وقلاعها الّتي لا تهوي، وزينتها الّتي لا تتعرى، للقلائل الذين أصبح العيش هنا ثقلاً عليهم، وأصبحت الحياة خارج هذه الأسوار الخيالية مقصداً لهم.

ولم أكن أعي وقتها أنّ معركة ضاربة ستجري ضمن تخوم المنطقة الّتي تعرفني وأعرفها. كنت في غفلة منّي، لمّا راح الأمل يتدفق إليّ لاهثاً من نافذة الرغبة الّتي وقدت الشغف في صدري، فمضيت من شدّة الحماس أحاول أن أكبر لأرفض حكم القدر، وأنقلب عما لا ينفكّ يغرس الجحيم في قلبي الّذي لم يعد يطيق الأمية تتكاثف في الأرجاء، والخنوع متزن الخطى يتجوّل في الذوّات كأورام خبيثة تقود إلى مقصلة الجهل. وحين بدأت تظهر عليّ ملامح النّبوغ، شعر أبي بكثير من الفخر وهو يراني قد حفظت الكثير من سور القرآن الكريم، بيد أنه على رغم سماحة روحه لم يسمح لي بالمغادرة إلى المدينة، لعلّي أستزيد علماً من دورها ومعاهدها ومساجدها، وأصير ذا شأن وعلم.

دارت بي الأرض وارتجف الكون من فوقي. سفحت الكثير من الدموع. تفهّمت أن هويّتي تقتفي وجودي وتحدد أين تنتهي صلاحياته. ظّل الأمر يحز في نفسي، ويتغلغل في وجداني أكثر فأكثر، تلك هي قسوة الحياة، قسوة لا مفر منها. وكانت الأيام الّتي تلت الرفض بكائيات طويلة، فضولي وحبّي للعلم والتعمق في الفقه بُتر بكلتا يديّ الصورة النمطية للبلدة المشؤومة، والتي أدمت دواخلي المبتورة.

في ليلة ما، قررت أن أبقى إلى حين، لكن لم أكن لأتقبّل أن تُقمع إرادتي. فكان ثمّة عمل في الظّل يُنتظر مني القيام به. أحنيت رأسي أمام الظّروف، غيّرت منطق فهمي للأمور إلى أن وصل اليوم الّذي تعاقدت فيه مع الأفراح، واستدرجني الطموح العاتي في مواجهة مع مجلس البلدة :
- ما الّذي تنوي أن تفعله... يا هذا؟
سألني الرئيس بامتعاضٍ. بدا عليه الغضب الشّديد. لم أعر تكشيرات وجهه الاهتمام. أجبته:
- لقد حان وقت الرّحيل يا سيدي... لقد حان ذلك حقّاً.
- هل تعني بهذا أنك ستخالف قوانين بلدتنا؟
- نعم يا سيدي... لم أعد أريد أن أرضخ لقوانينكم المجحفة... يكبر الطفل هنا ليصير رجلاً كبيراً ثمّ فلاحاً صغيراً يعيش على ما تجود به الأرض.. ثمّ يتزوّج إحدى فتياتكم... وإذا فعل العكس تتهمونه بالعصيان... لا أريد منكم شيئاً يا سيّدي.. كل ما أريده هو أن أرحل لأتعلّم وأكتشف الحياة... لقد حان الوقت ليتمّ إنعاش الإنسان هنا... ليتمّ ضخّ دماء جديدة... وها أنا فاعل يا سيّدي... أستودعكم الله.



أضف تعليق



التعليقات 23
زائر 1 | 3:58 ص أكثر من روعة رد على تعليق
زائر 2 | 9:35 ص قصة محبكة بشكل ادهشني رد على تعليق
زائر 3 | 12:53 م اظنك قاص مبدع و ذو خبرة في الكتابة رد على تعليق
زائر 4 | 9:18 ص رائع رد على تعليق
زائر 5 | 1:45 م قصة ممتازة رد على تعليق
زائر 6 | 2:12 م سلم قلمك رد على تعليق
زائر 7 | 6:37 ص جاء بالقصة " أورام خبيثة تقود إلى مقصلة الجهل " واظن أن هذا خلل منطقى فالأورام الخبيثة تقود الى الموت والفناء وهذة هى النهاية المحتومةام الجهل فما صلته بالموضوع.
واذا ادعيت انى فهمت ما قصده الكاتب وهوالخروج من نطق حياة ضيقة الى حياة اخرى ولكنى اعترض على الهجوم على أى نوع من أنواع الحياة ولا شئ يأتى صدفة فيها فكل جزء من هذا الخضم الواسع من الأحداث التى نعيشها على الأرض غنى بمفرادته واهتماماته حتى لو اختلفنا فيما بيينا. لى الحق فى أن أخوض تجارب جديدة وتذوق نكهات الحياة المختلفة لكن دون إجحاف لك . رد على تعليق
زائر 8 | 12:53 م قصتكم لها بعد عميق احييك على الموضوع لاول مرة يتحدث عنه احد و طريقة التي بدأت بها و ختمت فعلا ادهشتني مع استعمال وصف دقيق حظ موفق ان شاء الله. رد على تعليق
زائر 9 | 12:56 م صديقي الجميل المعلق.. على عكسك فقد أعجبتني القصة .. و اعتقد ان كاتبها نجح الى حد بعيد في ايصال فكرته من خلال القصة .. الكاتب وصف الخنوع لواقع البلدة و تأثيراته باورام خبيثة تقود الى مقصلة الجهل.. فهو استعمل هذا التشبيه مستعيرا صفة الاورام الجسدية التي تقتل الانسان .. و جاعلا من ورم الاستسلام و الخنوع طريقا الى مقصلة الجهل .. و هذا طبيعي و تشبيه أرى انه من بين التشبيهات العميقة بحق.. ثم ارى ان الراوي و الكاتب هو الشخص نفسه.. لذا أي رأي أبده في واقعه المعايش هو حكم سليم و لا عوج فيه .. دمتم سالمين رد على تعليق
زائر 10 | 1:42 م ...الذي لا تضيع ورائعه ..حلق أيها الطائر ودع القفص للجهلة..قصة ممتازة برافو رد على تعليق
زائر 11 | 1:47 م قصة اكثر من رائعه . اتمنى لك مسيرة موفقة رد على تعليق
زائر 12 | 1:56 م ايها القاص المبدع احسنت ثابر و اجتهد في كتابتك فانت تحيي جيل القلم و الكتب في زمننا هذا. أتمنى لك كل التوفيق و النجاح رد على تعليق
زائر 13 | 3:07 م أرجح قصتك للفوز لأنها تستحق تحياتي لك رد على تعليق
زائر 14 | 3:22 م وفقك الله تعالى ....مبدع
تحيا الزئبقية رد على تعليق
زائر 15 | 3:34 م واااو يا سلام على الابداع. ههههه من جهتي زدت احببت لنا القراءة. أسأل الله عز و جل ان يحافظ على تلك الأنامل لتمتعنا أكثر رد على تعليق
زائر 16 | 6:15 م بالتوفيق أخي رد على تعليق
زائر 17 | 6:15 م عن جد حبيت القصة كتيير بحييك اخي رد على تعليق
زائر 18 | 6:27 م اتحفتنا بقصتك كما العادة بالتوفيق عبد الحكيم رد على تعليق
زائر 19 | 6:49 ص سلم قلمك رد على تعليق
زائر 20 | 8:31 ص يمكن انا اكثر واحد فهمتك لاني عست هذا الشي الله اوفقك رد على تعليق
زائر 21 | 11:00 ص القصة جميلة


بالتوفيق اخي رد على تعليق
زائر 22 | 1:58 م تحياتي أخي قصة معبرة فعلا رد على تعليق
زائر 23 | 2:59 م قصة مشوقة رد على تعليق