قصة قصيرة... البلدة
عبدالحكيم هرواشي - قاص مغربي
كل الّذين وُلدوا في تلك البلدة البعيدة المعطوبة إلى حدّ الشّفقة وُلدوا في فوضى الصّدفة المُفجعة الّتي صرفتْ نظرهم عن واقع خارجي وحياة حضريّة دُفنتْ في خيالهم البدوي اليائس المطوق بأعرافهم وتقاليدهم وشهيتهم في الانعزال. ولم يكونوا، لسبب غامض، قادرين على الخروج من دوّامة البلدة، وتجاوز الجبال الشامخة الّتي تلوّح قممها السبعة من بعيد، كأنّها تعلن التحدّي، بغطرسة تربتها، وقلاعها الّتي لا تهوي، وزينتها الّتي لا تتعرى، للقلائل الذين أصبح العيش هنا ثقلاً عليهم، وأصبحت الحياة خارج هذه الأسوار الخيالية مقصداً لهم.
ولم أكن أعي وقتها أنّ معركة ضاربة ستجري ضمن تخوم المنطقة الّتي تعرفني وأعرفها. كنت في غفلة منّي، لمّا راح الأمل يتدفق إليّ لاهثاً من نافذة الرغبة الّتي وقدت الشغف في صدري، فمضيت من شدّة الحماس أحاول أن أكبر لأرفض حكم القدر، وأنقلب عما لا ينفكّ يغرس الجحيم في قلبي الّذي لم يعد يطيق الأمية تتكاثف في الأرجاء، والخنوع متزن الخطى يتجوّل في الذوّات كأورام خبيثة تقود إلى مقصلة الجهل. وحين بدأت تظهر عليّ ملامح النّبوغ، شعر أبي بكثير من الفخر وهو يراني قد حفظت الكثير من سور القرآن الكريم، بيد أنه على رغم سماحة روحه لم يسمح لي بالمغادرة إلى المدينة، لعلّي أستزيد علماً من دورها ومعاهدها ومساجدها، وأصير ذا شأن وعلم.
دارت بي الأرض وارتجف الكون من فوقي. سفحت الكثير من الدموع. تفهّمت أن هويّتي تقتفي وجودي وتحدد أين تنتهي صلاحياته. ظّل الأمر يحز في نفسي، ويتغلغل في وجداني أكثر فأكثر، تلك هي قسوة الحياة، قسوة لا مفر منها. وكانت الأيام الّتي تلت الرفض بكائيات طويلة، فضولي وحبّي للعلم والتعمق في الفقه بُتر بكلتا يديّ الصورة النمطية للبلدة المشؤومة، والتي أدمت دواخلي المبتورة.
في ليلة ما، قررت أن أبقى إلى حين، لكن لم أكن لأتقبّل أن تُقمع إرادتي. فكان ثمّة عمل في الظّل يُنتظر مني القيام به. أحنيت رأسي أمام الظّروف، غيّرت منطق فهمي للأمور إلى أن وصل اليوم الّذي تعاقدت فيه مع الأفراح، واستدرجني الطموح العاتي في مواجهة مع مجلس البلدة :
- ما الّذي تنوي أن تفعله... يا هذا؟
سألني الرئيس بامتعاضٍ. بدا عليه الغضب الشّديد. لم أعر تكشيرات وجهه الاهتمام. أجبته:
- لقد حان وقت الرّحيل يا سيدي... لقد حان ذلك حقّاً.
- هل تعني بهذا أنك ستخالف قوانين بلدتنا؟
- نعم يا سيدي... لم أعد أريد أن أرضخ لقوانينكم المجحفة... يكبر الطفل هنا ليصير رجلاً كبيراً ثمّ فلاحاً صغيراً يعيش على ما تجود به الأرض.. ثمّ يتزوّج إحدى فتياتكم... وإذا فعل العكس تتهمونه بالعصيان... لا أريد منكم شيئاً يا سيّدي.. كل ما أريده هو أن أرحل لأتعلّم وأكتشف الحياة... لقد حان الوقت ليتمّ إنعاش الإنسان هنا... ليتمّ ضخّ دماء جديدة... وها أنا فاعل يا سيّدي... أستودعكم الله.