قصة قصيرة... أنا باردو
عثمان بالنائلة - قاص تونسي
تناهى إلى سمع حمادي صوت منبه السيارة الحاد. فتراجع إلى الخلف دون أدنى تفكير. تسارعت دقات قلبه. وأصابه صمم مؤقت. زاغ بصره. وجف فمه. رأى السيارة تمر حذوه بسرعة جنونية. لم يصدق أنه نجا من الموت للمرة الثانية في ذلك اليوم. اِمتدت يده لتلامس وجنته حيث لازالت تستقر دمعة. تزاحمت ذكريات هذا المساء متداخلة أمام عينيه. رأى روبارتو الذي عانقه بحرارة. أبصر وجوه ماريا وإميليو وصوفيا وغيرهم تتزاحم حوله مهنئة راضية مدينة له بالعرفان.
داخله شعور بالفخر والسعادة العارمة. أخرج من جيب بنطاله علبة السجائر. أخذ منها سيجارة. لامسها لسانه. فلسعته برودتها المرة. أشعلها. ونفث الدخان بقوة على شكل كريات بيضاء تصاعدت إلى السماء. اِسترخى جسده. وسرت فيه قشعريرة.
تذكّر ما حصل له في منتصف ذلك اليوم. كان في الطابق الثاني من متحف باردو برفقة مجموعة من السواح الإيطاليين. كان دليلهم السياحي الذي كان يرشدهم ويخبرهم بكل قصص النفائس التي يحويها المتحف. سمع فجأة أصواتا مدوية. فخيل له أن شيئا ما قد سقط من السقف. أخبر السيَّاح بذلك. لكنهم لم يوافقوه الرأي. وقالوا له إنهم كانوا بصدد التعرض لهجوم إرهابي. لم يرغب حمادي في تصديقهم. فاِتجه بخطوات سريعة إلى الدرج المؤدي إلى الطوابق السفلى. أمسك بالدرابزين. وأطل. فرأى بأم عينه الثقوب التي خلفتها الرصاصات في الحائط. جثا على ركبتيه. وكذلك فعل مرافقوه. نظر إلى ماريا التي تبعته مع بعض أفراد الفوج السياحي الإيطالي. جحظت عيناها. واِغرورقتا بالدموع. وكتمت يدها صرخاتها المبحوحة. أبصر في عيون كل من كان حوله الرعب والعجز. اِنتابه القلق والاِضطراب. لكن سرعان ما اِستجمع قواه حين خطرت بباله فكرة. فاِنتصب واقفا. واِتجه مباشرة إلى أقرب مخرج طوارئ. فتبعه أغلب مرافقيه الإيطاليين. خرجوا من باب جانبي لمبنى متحف باردو. اِندهش سائق الحافلة التي أقلتهم حين رآهم مقبلين عليه راكضين. رأى حمادي رصاصة ملقاة على الأرض. فاِلتقطها. وواصل العدْو باِتجاه الحافلة. وطلب من السائق أن يوصلهم إلى ميناء حلق الواد. اِسترجع حمادي تدريجياً وعيه بالزمان والمكان. واِنقطع حبل الذكريات. تحسّس جيب سترته السوداء حيث كانت تقبع الرصاصة. أخرجتها يده المرتعشة. اِشتم رائحتها. فأحس بالذعر. نظر إلى الحوض الذي توسط الرصيف حيث زرعت نخلة. حفر بكلتا يديه حفرة صغيرة. ودفن الرصاصة فيها. وأهال التراب عليها. وواصل طريقه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة ملؤها الطمأنينة والخوف من قادم الأيام.