قصة قصيرة... الباطن
مصطفى مَلَح - المغرب
سِرْ، أسرع، لا تتراجع أبدا! نظرتُ فلم أبصرْ أحداً. كان ضوء القمر ينعكس على البحيرة. انتظرت إلى أن سكت الصّوت نهائيّاً.
تقدّمتُ قليلاً من البحيرة فرأيتها. امرأة بثوب أبيض وشعر يتدلّى مثل فاكهة الخريف. ونطق الصّوت من جديد: أسرع، لا تُبالِ، هي لك! وقبل أن أُقْدِمَ على الخطوة التالية جرّتني المرأة وسارت بي بعيداً. انتظرتُ صوتها، لكنّها ظلّت صامتة مثل البحيرة. وعندما بلغنا منحدراً عشبيّاً أوقفتني وقالت: اخلع عقلك! اعتبرتها مزحة لطيفة، لكنّها كرّرت الأمر ثلاثاً. سألتُ مرتبكاً وعاجزاً: كيف أخلع عقلي؟ مرّت دقائق فأحسست بالحرارة في جسدي، وسال عرق كثير، وكنت أحسّ أنّ كلّ قطرة عرق هي إحساس أو فكرة أو تأويل، وقلت في نفسي: هل خلعت عقلي؟!
دأت أرتجف. خلعت المرأة قميصها وجفّفتني به. زال الارتجاف، بدأت أسخن مثل خبزة فوق موقد. اقتربت منّي وضمّني وجودها العذب، فشعرت بأنّني أتطهّر، أنمو، أولد.
اتّفق أنّ سحابة مرّت فحجبت القمر، وسادت العتمة، ومرّ وقت طويل، فظهر القمر وفتحت عينيّ، فلم أجد المرأة، ووجدتني أعانق نفسي في منحدر صامت، ونطق الصّوت من جديد: لا بأس، سِرْ إلى الأمام، لا تجفل!
تركت المنحدر والبحيرة وسرتُ. قميص المرأة على كتفي وعطرها في بدني وصمتها في قلبي. وتعبتُ كثيراً. سقطتُ ونمتُ. في الصّباح استيقظتُ بحال جيّدة، قصدت البحيرة، ودعوت الله أن أجد الطّريق.
وقادني الصّوت إلى فجّ عميق، محاط بالأشجار والمتاريس الحجريّة المسنّنة، فرأيت كوخاً يغشاهُ نور كأنّ نور النّهار لم يعد كافياً لصاحب الكوخ. تقدّمتُ ببطء وطرقت الباب. وأنا أرفع جسدي فُتِح الباب فرأيتها: المرأة ذاتها، اقتربت وقلت في نفسي: لن أتركك هذه المرّة حتّى ولو حجبت السّحب ضوء الشّمس. راعني أنّها حزينة، وصدرها عارٍ، انتبهت إلى الأمر وسحبت القميص من كتفي ووضعته على صدرها الخائف. انفرجت شفتاها مبتسمتين. وسمعت الصّوت من جديد: تقدّم، لا تجفل، هيّا أسرع!
التحمنا. صرنا واحداً. كانت بحيرتي وكنت غديرها. وخرجنا نجوب الأدغال. وفي مرتفع جلسنا. بعيدان عن الأرض قريبان من الشّمس. افترشنا بعضنا وصنعنا النّشيد. وأثناء نزولنا حملنا الأزهار والأعشاب، وعدنا إلى الكوخ، وأشعلتْ نور الفانوس، وسألتها:
- ألا يكفي ضوء الشّمس؟
- الشّمس كائن خارجيّ... نحتاج أحياناً إلى ضوء لإنارة الباطن.
- وما الباطن؟
- جزيرة الذّات... حيث المشاعر لم يمسسها غبار الوجود.
- وهذا الفانوس؟
- زيت الحاسّة... ونار العقل.
- وكم تحتاج البشريّة إلى فوانيس ليُضاءَ باطنها؟
- لا تحتاج إلى فانوس أبداً!
- لماذا؟
- البشريّة مكتفية بنور الخارج... ألم تكن كذلك قبل أن يقودك الصّوت إليّ؟
- أجل... صدقت.
- والآن صرتَ تحتاج فانوساً.
- أخبريني رجاء... من صاحب الصّوت السّريّ الذي يقودني إليك؟
- هو صوت العقل!
- وأنت؟!
- أنا الفطرة!
غادرنا الكوخ، وكنت مولوداً جديداً، وسرنا نركض ونلهو ونلتحم حتّى نصير واحداً. ومضى النّهار وحلّ اللّيل، فنزلنا إلى الوادي، ثمّ قصدنا البحيرة، اغتسلنا، وفي لحظة عشق دافقة ضمّتني إليها وافترسني عطرها الجائع، ومكثنا جسداً واحداً لفترة طويلة من الزّمن، ثمّ مرّت سحابة أخرى حاجبة القمر، فانطفأت البحيرة ولم نعد نرى شيئاً، واستمرّ العناق. ثمّ انحرفت السّحابة وظهر القمر في السّماء وقد انعكس جليّاً على ماء البحيرة، وفتحت عينيّ فرأيت المرأة، لم أكن أعانقها، لم تكن تضمّني، بل رأيتها داخلي، أصبحت كياناً باطنيّاً يسكنني، حينئذ شعرت أنّ القمر والشّمس ضوءان خارجيّان، وأنّني الآن فقط عثرت على ضوئي الباطنيّ!