قصة قصير... اسم اللعبة
أحمد الزناتى محمد - قاص مصري
في عمقِ ذاكرته، وليسَ على طرفِ لسانه، تجرى حلاوةُ رشفة عود القصب؛ حلاوةٌ تفوق النبيذ الأبيضَ داخل الكؤوس؛ الكؤوس المرصوصة بلا نهاية فوقَ المائدة الطويلة.
يحتفلون بعيدِ ميلاده الستين داخل قصرِه الكبير. الزوجة والأولادُ والأحفاد يغنون ويرقصون. زينة وأضواء وموسيقى وطعام، والأقداحُ تُملأُ بلا انتهاء.
نفسه مشتاقةُ إلى شيئْين لا يجدهما على المائدة. تخاتله لحظاتٌ هارِبة مِن الزمن الآخر، فيقولُ لنفسه: مرّتْ الأيام. يفكّر في اللُعبة التي حَلُمَ بها حينَ كان طِفلاً. تهبّ نسمةٌ خريفية مفعمة بشذى طين حديقة قصر فتُداعبُ أنفه. يجاري النسمةَ ويحلّقُ معها ليَحطَّ فوقَ غيطان البرتقال.
وهناك، يرى نفسه واقفًا إلى جوارِ أبيه الأجير، يراقبُ قطرات عَرَق الأبِ تنساب واحدةً تلو الأخرى على جلبابه الأزرقِ وهو يعزقُ الأرضَ، بينما يرقدُ بجلبابه الأبيضِ القصير فوقَ الأرضِ على بطنه وأصابعه تحفرُ في الطين فلا يجدُ سوى ديدانَ نحيلة. فينهضُ ليلهوَ معَ فراشات الغيط وحشراتِ الأرضِ. لكن الفراشات تهرُبُ، تطيرُ وتغيبُ في الأفق. فراشات الغيطِ لا تدوم. وحشرات الأرضِ تعود إلى رحمِ أمها حين يهبط المساء. يحلُمُ على الدوامِ بشيءٍ يملكه، لعبة، شيءٍ يدومُ له، وما الذي يدومُ والأيام تمرُّ؟
وتجيء أمّه، باسِمةً، حامِلةً الغذاء، ملفوفًا في خِرقة قماشٍ عريضة: خبز يابس وجبن قديم. ما رأى امرأة، يومًا، أسعدَ مِن أمّه وهي تغمِس الخبز اليابس في منقوعِ الجبن القديم، وتضع اللقمةَ في فم ابنها وزوجها، وتكتفي هي بنِثار المائدة. ينزعُ أبوه عودَ قصبٍ مِن الغيط ويقشّرِه، ويعطيه له.
يسيلُ عصير القصب على شدقيه فيتحلّبه بلذةٍ، ويحكي لأمّه عن حُلْمٍ يراوده؛ الحُلْمُ بعيدٌ، يحلم أنّه يحفرُ حفرةً في طين الغيط، فيجد لعبة. يبدو فـمّ أمه ذهبيًا وهي تقول له:
"...ولِمَ لا تقومُ بعملِ حفرةٍ في طين الغيط لترى إنْ كُنتَ ستجِد اللعبة التي رأيتها في الحُلْمِ... قد تجدُها... فيكون هذا كنزُكَ".
وفي فجر اليومِ التالي، يمسكُ بطرف جلباب أبيه وهو يغدو مُسرِعًا إلى الغيطِ، فيتركُ أباه للشقاء، ويبدأ هو في التنقيب. وبجذوع أشجار البرتقال اليابسة، يحفرُ في طين أرضِ الغيطِ. والشمسُ تقسو عليه، ولا يبالي، والعرق يَسَّحُ منه، فيصبِرُ، مُتَذكَّرًا أنهارَ عرقِ أبيه كي يوفّر اللقمة. ما أطعم الجبن القديم وما ألين الخبز اليابس، وما أجمل ابتسامةَ أمّه وهي تطعِمهما، هو وأبيه.
يفكّرُ في كلامِ أمه، فيذهب إلى المطرح الذي تعوّدوا الجلوسَ فيه. وفي البقعة التي كانت تجلسُ فيها أمه، يبحثُ مِن جديد.
وفي نهار حارٍ، يقيّلُ أبوه تحتَ شجرة ليمون عتيقة، وتهمّ أمّه بالانصراف. تلمعُ عيناه حيث يصطدمُ الجذع الخشبي بشيء، لا والله، لم يكن طينًا؛ اللعبة التي رآها في الحُلْمِ.
فيظلُّ جامِدًا، ها هو قد عثرَ على ما يدومُ له. لماذا الآن هو حزينٌ وما كان يريدُ شيئًا سِوى تلك اللعبة، التي حَلُمَ بها يومًا.
يفيقُ على نهنهنة بكاءِ حفيده، وقد شُغِلَ عنه أخوته. يحمِلُه ويهبطُ إلى حديقة القصر، فـيلمحُ بابَ حجرة مكتبه مفتوحًا، يدلِف إلى الحجرة، يفتح خزانته الحديدية ويُخرجُ منها لعبة الزمن القديم. كانتْ ما تزال مغموسةً بآثارِ الطين، يفرحُ، يداريها في بزَّته ويمشى نحو الحديقة.
يدِفنُ اللعبة في حديقة القصر، تمامًا، كما فعلَت أمه حين خبأت لعبةً في الطين قبل أنْ تقترحَ عليه البحث عن كنزٍ يدومُ له. ينسى أهمّ شيء. يذهب إلى مطبخِ القصر، باحِثًا عن خبزٍ يابس وجبن قديم. يأتي بهما، يخلع بزَّته ويفرشها على حشائش الحديقة، حاملًا الحفيدَ ويهمسُ في أذنه بكلماتٍ.