قصة قصيرة... نزاع
منال عبدالحميد - قاصة مصرية
حينما كُشف الغطاء عن وجه الجثة أدار الرجلان رأسيهما بعيداً للحظة... صرخت امرأتان، وأخذت كل منهما تلطم وجهها وتشق ثيابها وتحثوا التراب على رأسها، تمرغت المرأتان في التراب في لمحة استعراض متوازن تدربتا عليه جيداً... أداء مثالي كان سببه هو طول المران وتراكم الخبرة، إنهن يقضين أيامهن في توقع الأسوأ والاستعداد له، أحزان صغيرة تتكوّن منها أيام حياتهن وحياة أسرهن، تفصل بينها أحداث كبيرة، تأتي على صورة مصائب كبرى وكوارث مفجعة، وها قد أتت ساعة الكارثة، وغرقت المركب آخذة الأولاد معها إلى قاع البحر وإلى بطون السمك الجائعة، لا يجوع السمك في بلادنا إلا ليشبع على شبعه، ويسمن على سمنته، فبلادنا جوّادَة كريمة على وحوش القاع، وعلى كواسر السماء، وعلى جوارح الطير، جثثنا مباحة لها، وأوطاننا تعتنق مبدأ (أطعموا الطير من أوسط ما تحبون)، من لحوم أولادكم ومن قلوب شبابكم.
تعودن الأمر ولم يعد فيه جديد... أي جديد في وقوع كارثة في وطن تحدث فيه في كل يوم كارثة؟!
كان الوجه منتفخاً مشوهاً بلا ملامح، قاس جداً هو البحر على من يسقطون بين براثنه، لا يرحب البحر سوى بأسماكه وكائناته الرخوة، يحب الليونة واللدانة والبلل، وقد حولت المياه هؤلاء الغرقى إلى أجسام لينة مبللة بلا ملامح... محا الماء والملح ملامحهم، وبين الماء والملح صار الأولاد كتلاً من اللحم!
لا ملامح وكل أب يصر على أن الجثة جثة ابنه!
صرخ أولهما ملهوفاً:
- محمد
بينما تعالى صوت الآخر يجأر إلى الله والسماء والناس والأرض بشكواه صارخاً باسم ولده:
- أحمد...ابني!
لكن الجثة لا يمكن أن تكون لـ "أحمد" و "محمد " في اللحظة نفسها، فإما أنها لهذا أو لذاك... وكل أب يصر على أن الجسد المنتفخ المشوه لولده، بينما يصر الآخر إصراراً أكبر على كونها لابنه هو!
أمعنت المرأتان في الصراخ، وزادت بشائر النزاع من سخونة شكواهن المرفوعة إلى السماء، مُسجلة بعلم الوصول، ورجاء التوقيع بالعلم... أكبّ أحد الرجلين على الجثة يغرقها بدموعه، معلنا أنها جثة ابنه... بينما سقط الآخر على ركبتيه وراح يجذب الكفن البلاستيكي نحوه، مقسماً بالله وملائكته ورسله أنها لولده هو!
نزاع على جثة لم توارَ الثرى بعد، يختلفان على حق الحصول على جثة يدفنونها، على حق أن تموت حزناً وولدك مدفون تحت قدميك، بدلاً من أن تبكي جثة متحللة متعفنة تهيم في البحر ويتقاذفها الموج، وكأنها لعبة، وينقلها من ساحل إلى ساحل!
أشتد النزاع واحتدم، وظهرت بوادر الشقاق والعراك بالأيدي... بينما على الأرض استقرت الجثة مكشوفة الوجه، منتفخة بمياه القاع، وفمها يلتوى على جانب واحد... وكأنها تبتسم ساخرة.. بمرارة!