قصة قصيرة... كاتبة
ندى الأحمد - قاصة سعودية
منذ اللحظة الأولى التي تلفعتُ فيها بدثاري ونزلت إلى حيث مخدعي، والأسئلة تنهال عليّ بلا مفر، وها أنا أزيح عن كاهلي كومةً من الاعتذارات وأنثر الاعترافات على مساحة البوح الأخير، وأما عن سؤالك الحالي يا سيدي، فقد كنت أعبث بالأوراق كثيراً ولاسيما في عمر العشرين، عبّرت عن تجاربي وأودعتها جلّ مشاعري، لا أثقل عن سرد الخاطر إلا حينما يغالبني الكرى، أصحو لأكتب وأكتب لأحيا، هكذا كنت، إلى حين العرس الأبيض الساتر هناك والفاضح هنا!
- هل عليّ أن أكمل؟
- وماذا بعد؟ استرسلي.
زوجي مُثقلٌ بي وبأوراقي، بيننا فجوة كبيرة اسمها (تهمة الكتابة)، يزعجه صرير القلم، ويذيب عصبيته هجري المؤقت له، تأتيني ردوده ساخرة دومًا حينما أعرض عليه نصًا كنت أظنه مذهلًا.
في إحدى مشاهداتنا للتفاز، وفي الشريط المتجدّد بأسفل القناة، تم عرض إعلان عن مسابقة أجمل سرد نثري، وهو مما أستهويه كثيرًا، أستشيره للمشاركة فيلزم الصمت ثم يعاود تململه بأن هذه تفاهات وأن المرأة الصالحة يجب أن تجتهد بحسن تبعّلها أولًا وأخيرًا، وأن يكون البيت هو ساحة عملها لا غير! لا يكتفي، بل يزمجر في وجهي كعادته: لماذا تكتبين، كم من الوقت تضيعين، ما الذي تستفيدين، و...
يخرسني السؤال في كل مرة، فأنتشي من إيماني بقلمي، وأُشتت كلماته في معرض اللامبالاة.
بعد سنة كتبت شعرًا ساخرًا، ولحسن الحظ فاز بأحد المبادرات، هُرعتُ إليه أزفّ البشرى، لكنه صفعني برده حينما قال: وما هي الجائزة؟ إن كانت أموالًا فقد استفدتِ، أجبته بأن الجائزة عبارة عن درع تقديرية ونيل العضوية الفخرية بصحيفة "أدباء"، ومن فرط عشقي للكتابة توجّهت لكتابة المقالات والبحوث، هذه المرة تعمّدت عنونة مقالي بـ "مبدعة ولكن"، نال صدى كبيراً في المنطقة، وتبنّت الصحافة نشره، وقد طلب مني عمل حوار لمناقشته، ففعلت، وزوجي يتابع تحجيمه لقلمي: إنسانة فارغة!
أعددتُ بحثًا مطولًا حول الأسرة وتربية الأبناء علّني أصنع نقطة التقاء بين القلم والفكر القاهر، توالت الإصدارات وانهالت التهنئات من كل صوب، عدا الزوج، تأتي تهنئته عصيّة على الفرح، منهكة رمادية، ككل لحظة إبداع سابقة!
روايتي الأخيرة "إرهاصات" فازت بجائزة البوكر للرواية، ثم ترجمت للانجليزية، كنت حينها أشد ثقة بنفسي عما مضى.
- سيدي ما بك طأطأت برأسك، هل أطلتُ الكلام!
- لا، إني أواصل وضع علامة (صح) عند كل إنجاز قمتِ به، أكملي فرصيدك بدأ يرتفع.
أشكرك سيدي، مؤخرا طُلب من زوجي لقاء تلفزيوني - كونه الأقرب لي - ليتحدث عن شريكة حياته، وكيف وصلت لهذه الشهرة وهذا التقدم الكبير في المجتمع، أخرسَ الجمهور حينما قال: ليس كل كاتب كاتباً، والمرأة بالذات عليها أن تعي أن واجبها هو البيت فقط، لا أؤمن بحرية المرأة عملًا وفكرًا.
- توقفي فقد انتهت مهلة الجواب، رصيدكِ الآن جيد، لأنك كتبتِ عن القيم ذات يوم، مارستِ الجهاد على ساحات الورق، نصرتِ الحجاب في مقالك الذي صدر يوم الخامس من تشرين الثاني، وعالج قلمكِ قضايا حساسة في الدين كالتطرف، وعلى رغم حسن تبعّلك والمعارضة من حولك إلا أنك تمكنت من الفوز بالدارين، ولكن إساءة زوجك التلفزيونية الأخيرة للأسف ستبقى لأنك لن تستطيعي الدفاع وأنت تحت التراب!
إن سمح لي سيدي بالبوح، فقد سجّلت لقاءً خاصًا بيني وبين نفسي تحدّثت فيه عن بداياتي وطموحاتي، واستشهدت بقصص للناجحات قديمًا وحديثًا، وتركته عند صديقتي لتقدمه للتفاز إن أنا مِتّ!
وهكذا يا سيدي أفنيت عمري، ومستعدة للسؤال التالي.