قصة قصيرة... القناص
نوران عيسى علي - قاصة سورية
انطلقَ القنَّاصُ في رحلةِ صيدٍ ظنَّها لن تطولَ، فمهاراتهُ محطُّ إعجابٍ دائم. وعلى رغم امتلاءِ ثلاجتهِ بأصنافِ اللحومِ من القُطبِ إلى القطب، ومن المحيطِ إلى المحيط، فقد قرَّرَ إحرازَ رقمٍ قياسيٍّ جديدٍ في تكديسِ جُثثِ الطرائد.
سارَ في الغابةِ وأرهفَ السَّمعَ. فحَواسهُ شـُحِذت وجُنـّدت في انتظارِ غزالٍ شارد.
تقافزتْ جنادبُ هنا وهناكَ على وقعِ فردتَيْ حذائه العسكريّ تقتحمانِ ممالكَ العشبِ البرِّي. أبصرَ أرانبَ جـَذِعة تلوذُ بأوكارِها، وسربَ عصافيرٍ يحتمي بأغصانِ الأيك.
لم يُغرِ المشهدُ الرجلَ بتحريكِ الزّناد. إنهُ مسكونٌ بهاجسِ الانتصاراتِ (الكبيرةِ)، وما دونَ ذلكَ لعبُ أولاد.
وأبصرَها هناكَ.
ظبيةٌ لاحمةٌ تعدو بخفَّةِ نسيمٍ، على رغم بطنِها الممتلئةِ واكتنازِ كِفليْها.
قهقهَ الصيادُ عالياً. أسندَ البندقيةَ إلى "ترقوتهِ"، زرَّ عينيهِ، دارَ مع الظبيةِ يميناً، دارَ شمالاً، وارتسمت ابتسامةُ ظفَر على وجههِ قبلَ أن يضغطَ على الزّناد.
انقلبتِ الظبيةُ أرضاً، ترافست قوائمُها، اختلجَ الرأسُ، وتذبذبَ القرنانِ صعوداً وهبوطاً في محاولةٍ يائسةٍ للنهوض.
زعقَ القنّاصُ بفرحٍ شيطانيٍّ:
ــ أصبتُها.
اقتربَ منَ الطريدةِ فاجتاحهُ غيظٌ عارم. لقد خانتْهُ عيناهُ البصَّاصتانِ، فأمامَهُ تمددت امرأةٌ غجريةٌ، مجرَّدُ امرأة!
استدارَ مغادراً الغابةَ يشتمُ ويلعنُ مردِّداً:
ــ يومٌ غيرُ مناسبٍ للصّيدِ البرّيِّ.
في اليومِ التالي تأبَّطَ القنّاصُ بندقيةً جديدةً متينة. واتـّجهَ صوبَ البحرِ.
بدا الشاطئُ خالياً من البطاريقِ وأسرابِ الفقمة.
إنَّ هذا الخواءَ اللئيمَ لا يخدعُ قنـّاصاً مُحنـّكاً.
بعدَ انتظارٍ، أبصرَ بِطريقاً جنحَ إلى الشاطئِ شاذاً عن عادةِ البطاريقِ في ظهوراتِها الجماعيَّة.
سدَّدَ مباشرةً صوبَ الهدف.
ــ طـااااخ.
صوتٌ مشروخٌ، رفيعٌ، حادٌّ، ندا عن البِطريقِ قبلَ أن يسقطَ قتيلاً .
تقدَّمَ القنَّاصُ من الجثةِ ففوجئَ بطفلٍ، مجرّدَ طفلٍ مضرَّجٍ بالدماءِ. أفرجتْ قبضتُهُ الصغيرةُ عن بضعةِ أفراخٍ من السمكِ.
غادرَ القنَّاصُ الشاطئَ وهوَ يشتمُ ويلعنُ مردداً:
ــ يومٌ غيرُ مواتٍ للصيدِ البحريِّ.
في اليومِ الثالثِ، قصدَ القنَّاصُ الجبالَ الشاهقةَ حاملاً بندقيةً من أحدثِ طراز. متسائلاً:
كيفَ يُخطئُ قنـَّاصٌ محترفٌ طرائدَهُ، وقد أمضى دهوراً يتفنَّنُ في أصولِ التسديدِ والرمايةِ، بدءاً من السهمِ والنـَّبلِ، حتى" النَّابالم" والقنابلِ النوويةِ الإشعاعيةِ؟ وبلغَ من دقَّةِ تصويباتهِ أنَّ ضحيَّتهُ تـُصرعُ من طلقةٍ يتيمةٍ.
لمحَ في الأعالي طائراً أسطورياً يتهادى بخفَّةٍ بينَ الذرى.
استيقظ َ فيهِ جوعُ ألفِ ذئبٍ. سدّدَ عالياً، فضجَّ الوادي بدويِّ رصاصة.
هوتِ الفريسةُ أرضاً بسرعةِ الجاذبية.
حثَّ الخُطى إلى مشارفِ الجبلِ ، لمحَ أجنحةَ الطائرِ القويةِ البيضاء تتطايرُ نـُتفاً على المدرَّجاتِ الصخريةِ .
بدا وكأنَّ النسرَ قد تقيـّأَ أحشاءَهُ.
تأكـّدَ للقنَّاصِ بعدَ حينٍ، أنَّ طريدتَهُ كانت مِنطاداً يتريـّضُ بهِ رجلٌ عجوزٌ، مجرَّدُ كهلٍ لفظ َ أنفاسَهُ الأخيرةَ للتوّ.
اغتاظَ القنَّاصُ، فأفرغَ غضبَهُ بدحرجةِ الجثَّةِ، وطائرتِها البالونيَّةِ نحوَ الوادي مزمجراً:
ــ كـُونا مأدبةً للضَّباع.
وكانَ السجلُّ القياسيُّ لأمهرِ الرُّماةِ والقنَّاصينَ يتلاشى رويداً رويداً من مخيـّلتهِ وهو يغادرُ شاتماً مردداً:
ــ يومٌ غيرُ ملائمٍ للصيدِ الجوّيِّ.
والسؤالُ المُلِحُّ:
ــ متى تنتهي سباقاتُ الرِّمايةِ إلى الأبدِ؟
وذلكَ الجَرْيُ المسعورُ، والتنافسُ المحمومُ لإحرازِ فتوحاتٍ قياسيَّةٍ في رياضةِ الأجدادِ والأولادِ و الأحفاد.
إلامَ يستمر؟!