قصة قصيرة... عم سعد
دعاء القليعي - قاصة مصرية
هناك أشخاص في هذا العالم لا تتخيلهم إلا عجائز، ومنهم "عم سعد"... "عم سعد" عاش ثمانين عاماً دون أن يدرى به أحد، وعلى رغم الآلاف الذين يحملون الاسم نفسه؛ لكن لقب "عم سعد" ارتبط به وحده.
في الصباح ومع تباشيره الأولى يعتلى دراجته العتيقة - الهندي - وكأنه يعتلى العالم كله، والكل حوله مشدوهون لعبوره بينهم حتى يصل إلى دكانه... في دكّانه تجد مرآة كبيرة متهرّئة، ونتيجة (تقويم) بها ورقة واحدة ذات حجم كبير عليها رقم (7)، تمر السنوات وتمضى ولا يتغيّر الرقم أو الورقة أو النتيجة, ثبات وسكون وأيضاً سحر غامض ومدهش، لدرجة أن الرقم (7) يشاركك الحلاقة وأيضاً الحياة، فتراه في المرآة أمامك يشعر بحزنك أو بفرحك، ويقترب من قلبك ليبهجك، أو يلمس بسحره حزنك المخبوء.
في مواجهة مرآة الدكان تجد - كنبة - عتيقة بها سحّارة للجلوس والانتظار، وأيضاً لحفظ غرائب الأشياء بدءًا من قصاصات الصحف والمجلات والكتب، مروراً بالملابس وأدوات الحلاقة، وما جمعه "عم سعد " من البحارة الذين يجلسون في المقهى المجاور له.
نادراً ما تسأله عن شيء إلا وتجده في هذه السحارة، وكأنها صندوق الحياة الذي يقف على بابه.
لم تكن له متعة سوى سرد الحكايات، وحكاياته تتغيّر وتتبدّل وتطول وتقصر لكنها دائماً رائعة.
سألته يوماً: لماذا حكاياته بكل هذا الجمال ولم نجد له أعمالا مكتوبة؟
قال لي: تفرغت للحياة، والكتابة جزء من الحياة وليست هي الحياة.
حينما تغادر دكّانه لا تغادره وحيداً، بل يظل طيفه معك طوال الليل بما تركه فيك من حكايات، حكايات لا تعرف كيف ينسجها، ولا تجدها أو تصادفها في صفحات الكتب، تجدها فقط عند جلوسك إليه.
ومرّت السنوات تلو السنوات الى أن قرر مجلس المدينة إزالة دكّانه ونقله إلى دكّان جديد، فتوقفت الحياة فجأة فى جسده، ومات الحلاق الفقيرالذي فارقته الابنة ثم الابن ثم الزوجة، واستطاع بجمال قلبه أن يحزن وحده ولم يشعر أحد بحزنه، أو حتى يعرف أن له راحلين, لكنه لم يستطع أن يغادر دكّانه القديم إلى دكان آخر إلا راحلاً إلى عالم الغياب.
"عم سعد" ليس واحداً، هناك آخرين يحملون الاسم نفسه, ويعيشون في مدن وبلاد أخرى، يحبون الحياة وسرد الحكايات، ويغادروننا دائماً ونحن نشعرتجاههم بحزن عميق، لأننا لم نقدّم لهم شيئاً.
فقط نشعر بالبهجة حينما يأتي ذكرهم، أو تصادفهم عيوننا في أي مكان يكونون.