قصة قصيرة... أحلام سليبة
قريب الله برير- قاص سوداني
جاءته طفلته تبكي من المدرسة وقت الضحى، مغبرّة الهندام، منتفخة الوجه ومتضرجة الخدين. ركض نحوها يحدوه الضيق والانزعاج، ارتمتْ عليه تكاد تخنقها العبرة. صوتها المتهدّج بالبكاء ضاعت في تنهداته المغبونة الكلمات.
حاول أن يهدّئ من روعها بكلمات ودودة حانية، متوعدًا بالعقاب الجسيم كل من تسبب في بكائها، كمحاولة حضور الطمأنينة في نفسها المرتعدة بالخوف وكشف ملابسات ما ورائها.
احتواها بين أحضانه، ربّت عليها بحنو، جفّف دمعها المنهمر، هدّأ شهيق أنفاسها المرتعشة وانقطع في أنفها السيلان. سألها بلطف عمّا جرى. قالت بصوت مرتجف وهي ما تزال لائذة به: إن سَحَر صفعتْها زميلتها في المدرسة بالكتاب على وجهها. سألها ولِمَ لَمْ تشكها لمعلّمة الصف؟ قالت بتنهيدة حادة: إنها هدّدتها، بأنها ستفقأ عينيها إذا ما شكتها للمعلّمة، وإنها ليست المرة الأولي التي تتلقى فيها الضرب على يد زميلتها. وأضافت بخيبة أمل، أنّ معلمة الصف هي أم سحر.
ثارت حفيظته، ضاق صدره بالغضب وهاج كليثٍ مُستَفَز. كيف يُسْمَح لمعلمة بتربية صف كامل وهي لم تحسن تربية ابنتها الوحيدة؟
انتفضتْ زوجته غضبًا كسمكة أُخرجتْ لتوها من الماء، وصرخت ملء حنجرتها، وعزمت على أن تذهب حالاً إلى المعلمة وتتشاجر معها.
أقنعها بأنه سيذهب بنفسه ويوقف عبث تلك التلميذة العدوانية.
أمسك طفلته من معصمها وذهب بها إلى معلمة الصف وأفرغ عندها كل حنقه المكبوت، أنّبها بشدة أمام زميلاتها وعلا في وجهها انفعاله، وأوضح لها بأنّ ابنتها تستقوي بها، لذا لن تتورّع عن ضرب رفيقاتها في الفصل، فيتوجب توبيخها وردعها بشدة حتى تكف عن إيذاء البنات.
حار في أمره! من أين أتى بهذه الغلظة والفظاظة غير المعتادة في سلوكه، فكل من يعرفه يشهد له بالحكمة وضبط النفس. تقلّص خجلًا، وسرت في ضميره رعشة التأنيب.
شعرت المعلّمة بالأسف حيال موقف ابنتها أمام أمواج غضبه الهائجة، وقاسمته أنها لم تكن لها دراية بما جرى.
نادت طفلتها أمامه وكالت لها الزجر والتوبيخ وتوعَّدتها بالضرب المبرّح إذا ما بدر منها تعدٍ على زميلتها مرة أخرى وأرغمتها على الاعتذار منها.
أجهشت الطفلة بالبكاء وفاضت عيناها بالدموع.
أدخل طفلته الفصل بعد أن طمأنها بأنها ستكون بخير وأن ما حدث معها لن يتكرر ثانيةً.
غادر المدرسة منشرح الصدر مغتبطًا، لكونه انتصر لطفلته.
تنهّد بعمق وأخرج زفيرًا مريحًا، أعاد الهدوء إلى نفسيته المتوترة.
اعتدل في جلسته، ومسح بظهر كفه حبيبات العرق الندية عن جبينه.
تفقّد حاله، تذكّر أنه لم يذهب إلى أي مدرسة ولم يقابل أي معلمة!
كما أنه ليس لديه طفلة تدرس! لأنه لم ينجب بعد! وكيف ينجب من غير أن تكون له زوجه!
نظر حوله، وجد نفسه جالسًا في العراء مسندًا ظهره إلى حائط أحد المساكن المهجورة المطلّة على الطريق العام.
متوسدًا يده، مضطجعًا على أرضية المكان الصلدة القاسية، عليه ملابس رثة، جفّفتها أشعة الشمس وبِلى الاحتكاك، تفوح منها نتانة العرق وقذارة المكان، أمامه إناء صدئ به بعض القطع النقدية المعدنية.