العدد 5190 بتاريخ 21-11-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... زهايمر

محمد جميل الهمامي - قاص تونسي

دفعت الباب وهي تلهث في ضيق، كانت تسحب الهواء كشفّاطة هرمة. بدت كمِدْخَنةٍ قديمة تسعل في فزع. استقبلها بابتسامة باردة وهو يغمغم: تفضّلي. ارتمت على المقعد قبالته وهي تمسح العرق بيديها. مرّت أناملها الخشنة فوق تجاعيد وجهها، لقد شاخت... لقد مرّ الزمن من هنا. منحها ابتسامة ثانية وهو يقول: دقيقة واحدة. أومأت له برأسها وهي تزفر في صعوبة. كان صدرها ينخفض ثمّ يرتفع كمطبّ هوائيّ. استرقت نظرة إليه، كان في العشرين من عمره أو يزيد. طويل القامة، حاسر الرأس، حليق الوجه، غارت عيناه داخل جمجمته كحفرتين من ضباب. أغمضت عينيها وهي تستسلم لهواء المكيّف البارد.

- هل أوراقك كاملة؟

 سألني في لامبالاة. أجبت في انكسار:

 - أظنّها كاملة.

 مدّ يده في هدوء فناولته مظروفاً أصفر. افتضّه في برود ثمّ أدخل يده في أحشائه قبل أن يقلّب محتوياته وهو يمطّ شفتيه في ضجر. تنهّد في فتور وهو يهمهم:

ازدردت لعابي وأنا أجول ببصري بين الأوراق المبعثرة أمامه. عاود السؤال في لهجة حادّة:

قلبتُ شفتي السفلى وأنا أغمغم:

قاطعها في غلظة وهو يعيد الأوراق إلى المظروف قائلاً:

رمى المظروف في خمول قبل أن يردف قائلاً:

- أم هو ألزهايمر ...

سقط فكّها السفلي في بلاهة وهي تنظر إليه في جمود لجهلها آخر كلمة قالها. حدجها بنظرة سامّة وهو يهمهم في بذاءة:

- هل هناك أمر آخر؟

 انكمشت في مقعدها كسلحفاة عجوز وهي تقول في صوت كالبكاء:

شبك يديه فوق المكتب وهو يقول في هدوء:

- لأنّ أوراقك ناقصة.

وثب حاجباها المتعبان إلى أعلى وهي تقول ساخطة:

- من أجل ثلاث صور حقيرة تقطعون معاش أرملة كبيرة...

قاطعها في ضجر وهو يقول:

- إنّه القانون.

زمّت شفتيها في قهر ثمّ غمغمت ساخرة:

ارتسمت على شفتيه ابتسامة فارغة كالحرباء، تشفّ عن دعوة ملحّة للمغادرة. نهضت في تثاقل وهي تفتح حقيبتها الجلدية الحزينة، سقطت منها بعض علب الأدوية فانهارت لتجمعها كناطحة سحاب أجهضت نوافذها. مدتّه بشهادة طبّية قائلة في خفوت:

التهم كلماتها في فتور ثمّ مدّني بالورقة قائلاً في اقتضاب:

توجّهت إلى الباب في خطوات متهالكة، تبعني صوته يقول في شماتة:

 - سنغلق بعد نصف ساعة، عودي الأسبوع المقبل.

هزّت بكتفيها في وجع وهي تصفق الباب خلفها في هدوء... لحق بها وهو يترنّم بأغنية أجنبية ثمّ أجلسها على كرسيّ أبيض أنيق. اقترب منها في ثقة ثمّ دفعها إلى الوراء قليلاً، تراجع خطوتين إلى الوراء، ظلّ يرمقها في ثبات قبل أي يعاود الاقتراب منها ليرفع وجهها بلطف. اختفى وجهه وراء آلة التصوير الرمادية، قال في برود:

- كم صورة تريدين؟

أجابت في  شحوب:

- ثلاث صور  

أطلّ وجهه من خلف الكاميرا قائلاً في مرح:

- ابتسمي.

وضغط زرّاً، ليخرج ضوء أبيض ملأ وجهها البعيد في شجن...

لكنّها نسيت أن تبتسم...



أضف تعليق