قصة قصيرة... الضوء الرابع
قصة قصيرة - خليل كريم
يقطع الطريق السريع مهرولاً، كأنه يقفز من ضفة وادٍ إلى أخرى، وعيناه السوداوان وضعتا على ركن يلعب فيه ولده الصغير على رصيف المتحف، تدور يده إلى أقصى كتفه يرتب خماراً أبيضَ مزركشاً علق بشعره الأشعث كأن القماش علق بغصن شجر توت بري. كان يريد أن يصنع عمامة ترفع عنه لبس الغربة في المجتمع يصيح صوت بداخله كأنه يقول: أنا منكم لست غريبا أبداً أكرموني !
يجري الرجل الأعرج الأسمر شمالا بين رصيف المتحف تارة، وبين مدخل بنك تارة أخرى، جرياً بين تاريخ وبعض القطع المعدنية يملأ بها جيبه المتسخ يميل فيتأرجح فراغ في بنطاله البني. اعوجاج الحركة يرسم طيفه المائل تحت أسهم الأشعة الصيفية كلما تحول ضوء الإشارة إلى الأحمر فالفرصة مواتية. ثوان جديدة لالتقاط ما جادت به الأيادي البيضاء عبر نوافذ السيارات، فالكرم هنا يقاس بجهاز اسمه الضوء الأحمر ... عمد أحد الأصدقاء "منكتا" أن يقول لي ذات يوم إن مدرباً للسياقة سأل أحد المتربصين حول عدد الأضواء على لوحة الإشارات، فقال المترشح: أربع.
أردف، مدرب السياقة في أي بلد في العالم يوجد ذلك، ثلاثة نعرفهم والرابع، قال الرابع هو الضوء الأسود، صداكة أي صدقة بلهجة الماليين، ما إن أكمل طرافته حتى أحسسنا بالذنب، لأنني كنت أسرد معاناة شعب فر من عنف حرب قومية شرسة بمالي ...ولأن الحكاية تراجيدية هذه المرة بطلها رجل أعرج، قاطعته قائلاً إني أعرفه، وان ابنه يقيل تحت لافتة شارع السمارة صيفاً ويتسلى باللعب بين عجلات السيارات حافياً، الصحن البلاستيكي الأحمر لا يفارقه إنه مقود سيارته العجيبة التي تحصد بعض الدنانير وإتاوات المارة بإحكام.
- قاطعني صديقي إنه نزيل غرفة الإنعاش بالمستشفى الآن
- ماذا، رأيته البارحة إنه مامادوا !
- أنت مخطئ تتكلم عن سعيدوا أظنه شقيقه، إنه يشبهه لا تجد لهما قواماً مختلفاً.
- إذن أكمل !
- مامادوا رمى بنفسه تحت عجلة سيارة ظاناً أن ابنه تحتها يلتقط حبة موز، نقل على جناح السرعة إلى المستشفى .
- أظنه لقي حلاً في الانتحار .
- لم يكن ذلك بل وجد الابن غير مبالٍ على الرصيف يشرب عصيراً بارداً، كان ينزع قميصه من شدة الحر رامياً به في الطريق ولأن بال الأب كان مشتتاً بين حرارة محركات السيارات، وغبار يسكن على أرصفة الطريق في عز أيام شهر أغسطس ظن الرجل الأسمر أن ابنه بين العجلات فكان ما كان... إنه اليوم يصارع الموت.
-الخطر يملأ المكان، الأفارقة المطرودون لا يبالون بذلك كل نقاط الدوران محجوزة قطعة الرغيف تواكب دوران محركات البنزين والمازوت. الأيادي البيضاء تكرم في قلق، طفولة مشردة على الهواء، مصير أسود، الحظ التعس يلاحق هؤلاء الأبرياء.