قصة قصيرة... نومة العروس
قصة قصيرة - أحمد الزناتى محمد حسن
سـتظـلُّ هذه الواقعة في ذاكِرتي مثلَ صورةٍ قديمة أحـنُّ إليها كلما نأَتْ "هي" عني. أوقِن أنني لن أُمْـسـِكُ سِرَّ ما جرى. أيًا ما كان، لا يعنيني المنطقُ ولا العقل؛ يعنيني أنني خضتُ التجربةَ بعدَ الفِـراقِ، عالمُ الأحلامُ هو الممر الوحيد. ممرٌ نبيلٌ يعرجُ بي إلى مكان لقاء. أدخلُ إلى سريري، آملًا في حُلْمٍ خاطف يجمعُنا.
في تلك الليلة، حضرتُ عُـرسًا لفتاةٍ معرفة. شابةٌ يتيمة، سألني أحد الأقاربِ مساعدتَـها. توسّطتُ لها في الالتحاقِ بعملٍ. كانتْ تعيشُ مع أسرةِ خالها في أحد أحياء مِـصرَ القديمة. وكنتُ أمرّ عليها في طريقي لأوصلها للعمل. منزلي قريبٌ مِـن منزلِ خالها. حكَتْ حكايتها، ورقَّ قلبي، وبمرور الوقت، بدأَتْ تخبِرُني عن قصةِ حبٍ وليدة معَ شابٍ في مثلِ سِنّها. سدَّ الفقرُ طريقهما، فسعيتُ قدرَ طاقتي أنْ أزيحَ الحجر وأزوَّجها بمَنْ تحبُ. وتحقّقَ مُرادُها.
دَعَتني إلى حفلِ عُرسِها. الله يسعدها. ذهبتُ، ولـمْ أطِقْ المكوث وسـطَ طقوس الأفراح وأصواتَ الزغاريد.. جُدتْ بما استطعتُ، ولا يكلّف الله نفسًا إلا وسْعَها. استأذنتُ في الانصراف، مُتعلّلًا بسبب واهن فطِنَ له الجميع.
قادتني قدماي إلى منزل جدي. صعدتُ السُلّمَ حتى وقفتُ أمام بابِ الشقة. الباب مفتوحٌ على انتظار. في الداخلِ كلّ شيء على وضعه السابق. المذياع الخشبي المُعلّقُ أعلى طاولة الطعام، والكنبة البلدي المستقرّة أسفلَ شباك المنورِ، المُشرعِ دائمًا لينثر هواءً لطيفًا. وصينية شاي فوقها ابريقٌ جديّ الأزرق وكؤوس حمراءَ لامعة. يبدو أنّ أحدًا كان في زيارةِ لأهل المنزل الذين رحلوا.
تلطَّفتُ في دخولي إلى حجرة جديّ، رحمه الله. فوقَ سريره المُرتّب الخالي، وجدتُ رِسـالـةً مطويةً، فضضتها برفقِ مَـن يلاطفُ فراشةً للمرة الأولى. وقرأتُ:
قال سيدنا ومولانا الشيخ الأكبر مُحي الدين بن عربي في السِفر الثامنِ من فتوحاته:
"مَــنْ نـامَ (بـ)ــنفسه فهو ميتٌ
ومَــنْ نامَ (بـ)ــربه فهو نائمٌ
نومةَ العروس
حدستُ أّنه خطَّ جدي مِـن تنميقِ الخطّ ووقاره، وتأكدَ حدسي حينَ رأيتُ القوسين المرسوميْـن بخطِّ ثخين ليَحميا حرفَ الباء، والنقطةَ التي تحتَ الباء. ليصير حرفُ الباء مفصولًا حينَ يُرى، وموصولًا حينَ يُسمعُ. كان للرسالة غبارٌ نفاذٌ مثلَ هـبـوٍ انبعثَ مِن توابيت مقابر. تنشقتُه فدارَ برأسي. استلقيتُ مطرحَ جديّ لأغفو.
أبصرتُ طيفها أمامَ باب الحجرة. امتدَّ إلى بصري شعاعٌ برتقالي خافت مِن فتحة شباك المنور ليصنع هالةً صفراء فوقَ جسدِها. كانت واقفةً تنتظرُ شيئًا.مساءً كان الوقتُ، ولا أعلمُ أي ساعةٍ. لا فرقَ عندي بين صباحٍ ومساء؛ يستوي الصباحُ والمساء عندَ سدرة منتهاها.
حضورها مثلَ كائنٍ شفافٍ مِن كائنات الأحلام يهمِسُ في أذني بكلامنا طفولتنا البعيدة، فيستأصلُ دَنَسَ كلَّ الأصوات البشرية التي سمعتها بعدَ فِراقها. سألتني:
- ما أجملَ أنْ تستيقظَ بعد هذه السنين
- احترتُ كيف أصلُ إليكِ؟
- الحيرة أولُ الطريق
- لكنَ المسافات بعيدة..والعلامات باهتة
- ....لا تَنَمْ بِنفسِكَ.. نـَـمْ بقلبِكَ..
- فعلتُ حينَ تنشّقتُ غبارَ رسالة جـدِّنـا، وكأنّكِ كنت تسكنين حروف الرسالة
- أنا كالنقطة التي تحتَ الباء.. لا يستقيمُ المعنى بدوني
- (ب)ــــغيابكِ؟
- نعم .. بـِـغيابي؛ أغيبُ ليأتي آخرون...وما أتيتُكَ اليومَ إلا لأنّكَ وقفتَ إلى جوارِ اليتيمة، وحضرت عُرسها؟
- أتعرفينها؟
- تقريبًا..الشخصُ وإنْ كان واحِدًا فله أكثرُ مِن ظلٍ وأكثر مِن صورة*
- حبيبتي..لا أفهم.. أنتِ الآنَ في بلاد النور.. أخبريني بسِرَّكِ
- أخشى إنْ بُـحْـتُ بالسرّ أنْ يتحولَ إلى حرفٍ، مجردِ حرف؛ فلا يكونُ هناك سِـرّ.