قصة قصيرة... تغاضت حليمة عن عادتها القديمة
قصة قصيرة - يونس شفيق
"سر مع التيّار فيما يخصّ المظاهر، أمّا ما يخصّ المبادئ فلتقف مكانك مثل الصّخرة"
توماس جفرسون
منذ أن تعلّمت الخطّ بالقلم، لم تَتَوَقّفْ عن البوح. كلّ يومٍ ولحظةٍ ترصّعُ بياضَ الورقة بالجمال، بحروفٍ مرتّبةٍ ومتناغمةٍ. تَقْرضُ الشّعرَ وتنسجُ القصصَ بإبداعٍ ومهارةٍ. لا تُحسِنُ شيئا بِقَدْرِ مَا تبرعُ في الكتابة التي عشقت منذُ الصّبا. حليمة لم تَتَمَلّق يوما إلى كاتب أو ناشر. لم تَعْرِضْ جَسَدها مقابل دعوة للمشاركة في مهرجان. كان إيمانُها العميقُ بمبادئها الخلّاقة عائقا في عَدَمِ بُروزِ موهبتها للجميع. يَطَالها التّهميشُ من كلّ صوب. لماذا جلّ المثقّفينَ نَخَرَ النّفاقُ مبادئهم؟ فقدوا صدقيتهم، لا يولون اهتماماً لجوهر النّصّ الذي أمامَ أعينهم الزّائغة بقدر ما يَبْحَثون عن كاتبِ النّصّ، من يكون؟ ما خلفيته؟ ما مركزه؟. يكفي أن يكونَ النّصّ لِرَشيقةٍ خفيفةٍ تُحلّقُ مثلَ الفراشة في كلّ مكان وتُحْسِنُ فعلَ كلّ شيء، تسدل شعرها الأشقر، تتقنُ الغزل، وتحسن عرض أزياء الملابس الدّاخلية، حتّى يهبّ الجميع لاحتضانها وحضنها. إعجاب ومشاعر جيّاشة تفيضُ بِغَزَارَةٍ ولَا تنضب أبداً. أما نَصّ حليمة فلا يلقى اهتمامًا، على رغم جودته، فقط لأنّها حليمة العفيفة التي تحلم ببروز "النَّصّ" لا ببروز "النُّصّ".
حليمة تَعبتْ من التّهميش الذي يَخْنُقُها، قرّرت أن تُلْبِسَ وجهها قناعاً مزيّفاً، تُظهر من خلاله موهبتها المسجونة. تعلّمت ممّن يحطن بها شِعر "التبراع" (1) وصارت تُتْقِنُهُ كثيراً وأضحت، للأسف، تُجاملُ كلّ من قد تستفيد منه، توزّعُ عليهم الابتسامات والغمزات بالمجّان، ترافقهم إلى الأمسيات الخاصّة. فسحوا لها المجال لتصعد المنصّات المشبوهة، زادت شهرتها، كَثُرَ المديحُ فيها، ظَهَرَتْ أنيقةً في الشّاشات التلفزية، استدعيت للمنابر الإذاعية الخاصّة، كُتب عنها في صحف الأصحاب. الجميعُ صار فجأة يشيد بها وبما تكتب. حليمة فخورة بما تحقّقه، لكنّها مستاءة وغير راضية على الطريق التي سلكتها لأجل ذلك. يؤنّبها ضميرها عندما تستلقي على سرير الأحلام متوسّلة الرّاحة.
حليمة رأتْ، في منامها، أباها المرحوم يكيلُ لها السّبّ جزاء التّفريط في كرامتها مقابل اعترافٍ زائف. تعود إلى رشدها، تتعقّلُ في لحظة وتقرّرُ أن تسترجعَ كرامتها الضَائعة. تكفّ عن أساليبها الرّخيصة التي جعلتها تحتقرُ نَفْسَهَا. لكن من كان يدعمها بحجّة ما، تخلّى عنها اليوم، لم يَعُدْ يطيقها بعدما أصبحت مملّة، لا ملابس فاضحة، لا لمسة ولا غمزة. تريدين الالتزام فلتذهب موهبتك إلى الجحيم. لم تتقبّل الأمر بعدما اعتادت على البهرجة والظهور في كلّ المواسم. لم تجد حليمة سوى التّغاضي عن عادتها القديمة.