العدد 5167 بتاريخ 29-10-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... الأريكة

قصة قصيرة - ياسر محمد

جلس على أريكته المتهالكة التي لا راحة فيها إلا ما تبثه في نفسه من ذكريات. تمر على جبينه ومضات ترسم الابتسامة أحياناً والمرارة أحياناً أخرى.

مرت سنوات العمر وتغير ما تغير إلا هذه الأريكة. كنت هنا أقفز عليها صغيراً وأدرس عليها دروسي بنهم. غمرتني أحلام الشباب وأنا مستلقٍ عليها. سردت عليها قصة حبي الأول. انتابتني أحزان وأنا أتلوع عليها.

كل ذلك وهي صامتة صامدة لا تبوح بالسر. تحتضني بأنين تداعبني بهمس.

لماذا لا أدهنها بدهان جديد، وأضع عليها وسادة مريحة، وأظللها بمظلة حديثة، وأجعل الورد والزهور حولها من كل جانب.

إنها فكرة جميلة ستجعل منها جنة رائعة يقصدها القاصي والداني آه وآه من تلك الآه؛ ستصبح مشاعاً للجميع؛ سينهل الكل من ذكرياتها، لا أستطيع أن انفرد بها، لن تبوح لي بالذكريات؛ ستلفظني لأني فرطت فيها لآخرين؛ ستضعف ذاكرتها لتعدد المترددين؛ ستصبح جماداً بعد إن كانت روحاً وعقلاً وقلباً.

إنها أريكتي سأخلو بسرها ولن أفضحها سألهو معها وحيداً.    

غفا قليلاً على أريكته الوفية طالت الغفوة حتى تسربت أشعة الشمس بدفء إلى أصابع قدميه مبشرة بصباح جديد، نفض عن نفسه ما ستره عن أعين الناس التي لا ترحم، وقام مهللا "أصبحنا وأصبح الملك لله"، ثم بخطوة مدربة تناول بيده وعاء نثر على وجه قطرات ماء لا تشفع له إلا من استفاقة بعد غفوة اعتادها من عشرات السنين، وبدأ في ممارسة حياته بجد ونشاط. بدا نشيطاً اليوم أكثر من الأيام السابقة، ونظف الشارع، ثم رص الخضروات بخفته ورشاقته المعتادة، على رغم ما يحمله على  جسده من شحوم وفي قلبه من هموم. استند بظهره على قفص من أقفاص الخضروات، وأخرج من جيبه سيجارة تالفة أشعلها بحرص وأقبل عليها بشغف ووضعها بين شفتيه برفق، وضغط عليها بعشق أحيت في نفسه أيام العز عندما كان بين عائلته التي فقدها يبادلهم مشاعره الملتهبة التي يستبدلها الآن بسيجارته. انتبه فجأة للسيجارة تلسع يديه وصوت أحد الباعة ينادي بصوت مزعج (...) نظر بحسرة وضيق لأنفاس السيجارة التي تبددت بين يديه وحلمه الذي تبخر على هذا الصوت المنكر.

انغمس في يومه تبادل الضحكات والصرخات. قام وجلس. صرف يومه وهو بين ألف وجه ووجه منتظراً أن يعود وحيداً إلى أريكته لينعم بين جنباتها بما يريح قلبه هذا السر الذي نسج على مدى سنوات لم يستطع أي من بني البشر أن يحل محله أو يطلع على ما يموج به صدره.

أن الجماد قد يظهر قاسي الملامح إلا أن بين طياته دفء ورحمة لا يرتقي لها بعض البشر.

 



أضف تعليق



التعليقات 3
زائر 1 | 3:41 ص سلمت أناملك يا ياسر... طرح موفق وسرد شيق، لا أبالغ إن قلت أنني قد عشت اللحظة..تقمصت الشخصية... وغمرت الذكريات قلبي بالشوق والحنين... كل التوفيق أتمناه لك. رد على تعليق
زائر 2 | 11:33 ص شكراً للزائر رقم 1 اشعر بالفخر والأمتنان لتعليقكم الكريم وأثلجت كلماتك العذبة قلبي ياسر محمد
زائر 3 | 4:12 ص جميلة رد على تعليق