قصة قصيرة...113... وأرقام أخرى
قصة قصيرة - محمود إبراهيم الحسن (سورية)
[ تركتها جنينا في أحشاء زوجتي عمره ستة أشهر، سميتها مسبقا "فرح"، وافقتني زوجتي على الاسم، أما أنا فمنذ ذلك اليوم أصبح اسمي الجديد "113"، يخترق "نضال" عليَّ خلوتي ثلاث مرات يومياً، يشدني إلى الحمَّام، ثم يبدأ بالعد بسرعة تعادل ضعفي عداد الثواني: واحد .... اثنان...وعندما يصل إلى الرقم "عشرة" يجب أن أكون خارج الحمّام، وجاهزا للعودة. يحدث أحياناً كثيرة أن يؤخرني الاسهال، وهذه عقوبتها جلدتان عن كل عدة تأخير، وإذا وصل العد إلى 30 ولم أخرج تتحول العقوبة إلى حرمان من الطعام لمدة أربع وعشرين ساعة، فهذا هو الحل الأمثل برأي نضال "للقضاء" على الاسهال، تمنيت لو أن نضال يأخذني ألف مرة يومياً إلى الحمَّام، فعلى رغم التعسف والضرب اللذين أتحملهما في كل مرة؛ إلا أن الوقت يمضي فيها بسرعة البرق، بعكس كل لحظة أخرى أعاني من دفعها وانقضائها في حجرتي الضيقة.
راقبت على الجدران تزاوج الحشرات والديدان، وشاهدت صراعها مع بعضها على البقاء، وعندما يلتهي نضال وزملاؤه أهمس لجاري "112" ونبدأ الحديث عن ذكرياتنا التي توقفت عند باب هذا المكان التعيس. أحياناً تصل بنا الجرأة لأن نتحدث حتى مع رقم "123"، ذات مساء كئيب فرضوا علينا عقوبة جماعية ثمانين جلدة لكل "رقم"، وكان صاحب الرقم "118" ضعيفاً وهزيلاً جداً، وصرخ من أول جلدة بأنه سيموت إذا استمروا في ضربه، تبرع الرقم "116" بأن يتحمل العقوبة عنه فما كان من الضابط إلا أن قرر أن يضرب "116" مئة وستين جلدة، نقلوه بعدها إلى المشفى كما قالوا، ومنذ ذلك اليوم أصبح"118" يبكيه بحرقة ووجع ضمير طوال اليوم.
- رقم "119" دورك غداً إلى "الجنزير"*، وأنا؟ سألته فأجاب: أنت "113" لا تسألني هذا السؤال مرة أخرى.
الشاب أحمد الأسمر العشريني الذي تقول ملامحه إنه مثلنا يكره الساعة التي أتوا به فيها إلى هنا يبدو طيباً، فأنا أعيد له هذا السؤال يومياً منذ سنتين وشهر وثمانية أيام، ويكتفي بتنبيهي، وعلى رغم أني أتمنى له أن ينتقل إلى مكان أفضل من هنا، إلا أنني في الوقت نفسه أحمد الله كثيراً فمثل هذا السؤال كان سيكلفني عدة جلدات يومياً بالكابل الرباعي الذي لا يفارق نضال أبداً.
بدأ "119" بمراجعة أرقام الهواتف التي حفرها كل منا في ذاكرته مسبقاً، أربكه "114" الذي انفتحت قريحته الشعرية فراح يلقن "119" قصيدة غزل لخطيبته التي فارقها قبل الزفاف بأيام، أما أنا فطلبت منه أن يوصل لأم فرح بأنني ما زلت على قيد الحياة، على رغم أنني أموت في اليوم ألف مرة. دخل نضال فجأة، وسمع همسنا المتصاعد فقرر اللئيمان ينقل "119" إلى مكان آخر، تمنيت له أن يرى النور في صباح الغد، وأن يطمئن فرح بأن لها أباً.
*الجنزير: كلمة تستخدم في المعتقلات السورية عند الذهاب إلى القاضي؛ حيث يقيد المعتقلون بسلسلة حديدية طويلة تسمى شعبياً "الجنزير".