العدد 5093 بتاريخ 16-08-2016م تسجيل الدخول


الرئيسيةثقافة
شارك:


قصة قصيرة... الرحيق المر

قصة قصيرة - مصطفى محمد معوض سالم (مصر)

 قبل أن تلدغ عقارب الثامنة يده اليسرى بربع الساعة كانت رائحة القهوة تتفلت من بين براثن الفنجان لتملأ كل أرجاء المكان وتتوغل - بغير استئذان - إلى أنوف الجالسين ولتطغى برائحتها على عطره الكلاسيكي الذي استسلم أمام نفوذها وأفسح لها المجال بلا مقاومة مثله مثل بقية العطور الجوالة حوله شرقيها وغربيها. وعند المنضدة التي تحتل رأس الزاوية الخلفية للمقهى الملاصق لمبنى الوزارة الشاهق يضع الفنجان بهدوء شديد كي لا يقلق حمض التنين الكامن في القاع فيفور وتفقد مدللة "أسمهان" غثاء تحويجتها النفاذة، وتطيش ملامح وجهها على الأرض فتصير مسخاً بلا طعم ولا رائحة.

سحب الكرسي من بين أحضان المنضدة وبحركة رشيقة تجاري طوله وتلائم بدلته القاتمة مال بنصفه الأعلى وثنى قدميه ليدخلهما محراب المنضدة وجلس يحتضن فنجان القهوة بكلتا يديه يستدفئ به ويستأنس بها... ستمر خمس دقائق على الأقل قبل أن يعيد الكرسي المكلوم إلى أحضان محبوبته ويترك لهما ذكرى في فراغ الفنجان تئن وتتأوه بصوت لا تدركه مسامعنا.. فقط مسامع وأذن الفوارغ وأشباه الفوارغ في الجوار.

في حراسة عشرة أصابع وخاتم نقشه حرفان انتزعهما من موضعين متفرقين من الأبجدية العربية يرتفع الفنجان في الهواء ويهبط بصورة دراماتيكية... رشفة تصحبها شمة تعقبهما نفثة... تعلق بعض بقايا الرحيق المر بأغوار الشفاه القانية مع كل غدوة وروحة... رشفة ثم أخرى وشمة ورحيق... كلٌ يعرف طريقه تماماً كما هو مقدر له: تستقر الأولى في بيت الداء وترتقي التالية إلى شعاب المخ مباشرة لتشتت فلول الأحلام وتوقظ الخلايا الناعسة التي لم تعتد بعدُ العمل في أولى ساعات النهار. تتلذذ الشفاه بالرحيق المر كما تلتذ العين بتفحص حركات الجالسين ونظراتهم... داخل كل نظرة عابثة وفي ثنايا كل وجه متجهم عمر طويل من طحين الأحداث التي لا يخفى على مترجم مخضرم مثله كشف تفاصيلها مهما حاولوا إخفاءها، فخبرة السنوات السمان ومثلها عجاف قضاها يسبر أغوار النصوص الأدبية عربها وعجمها علمته الدرس جيداً: "من أظافر المرء، ومن أكمام معطفه، وشكل حذائه، وركب بنطلونه، وشكل أساور قميصه، وحركاته، وتعبيراته؛ من كل هذه الأشياء يظهر دافع الإنسان بوضوح..." (شيرلوك هولمز)..

وهل كان السيد هولمز الشهير إلا نظرة تأمل غلفتها المعرفة المتراكمة بخبرة تجاوز بها نطاق الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية لتنهار أمامه كل أقنعة الطيف المرئية ولتفصح عن النص الأصلي لوجوه الآخرين؟!

رشفة متأنية ورائحة طاغية ورحيق تعثر في بعض ثنيات الطريق.. منظومة على رتابتها تخللتها نظراته المتفحصة. تبرق عيناه فجأة فيتوقف الفنجان والحراس في منتصف الرحلة.. يسكن كل متحرك ويهدأ كل فائر ويتشكل تمثال "شارب القهوة الواجم" أمام ذلك الرداء الطويل الذي طرق المكان تواً وطوقه بعطره.. ذاك الرداء الذي ترجم يوماً ليس ببعيد تفاصيله الحانية بدمعه المسبل، وأبصر لونه الزاهي يتألق أمامه في ضوء الأوراق.. "اللون الأزرق يجذب الإنسان إلى مالا نهاية" (فاسيلي كاندينسكي).

ترى هل مازال حلم الرداء يطارده أم أن سطور الأدب تجسدت واقعاً كبيراً لا تشتته رائحة التحويجة؟!. لم يعد الفنجان بحاجة إلى حراس كي يسقط على الأرض فتنتهي رحلته الأخيرة بتكسرات تئن وتتأوه... يلتفت الجميع إلى ناحية الصوت إلا هي... تتشتت وتختفي في فضاء الأحلام... يستفيق هو أمام ذهول الآخرين... يلملم ذاته ونظراته وقبل أن يغادر تماماً يلتفت عن يساره إلى الزاوية الخلفية للمقهى... هناك... تسقط دمعة واحدة تختلط ببقايا الرحيق الملتصق بالشفاه فتذيبه وتزيد من مرارته في الفم... يختفي.



أضف تعليق



التعليقات 7
زائر 1 | 8:15 ص اقرب الى خاطرة منها إلى قصة قصيرة ، اللغة تشتت القارئ ، لم استوعب الفكرة من النص سوى التغزل بالقهوة
عموما
بالتوفيق رد على تعليق
زائر 2 | 8:42 ص افتتاحية آخاذة رد على تعليق
زائر 3 | 4:06 م اتخذ الكاتب من القهوة نموذجا لإسقاط فكرته وهي معاناة المترجم الذي ينهمك في ترجمته إلي الدرجة التي تصل به إلي عشق صورة الفتاة ذات الرداء الأزرق التي ترجم وصفها في أحد القصص أو الروايات. وبالرغم من رحيق القهوة المر إلا أنه لا يقدر علي فراقها ويظهر ذلك في وصف الطريقة التي يعتني بها بطل القصة بفنجان القهوة بل ويتغزل بها ويصفها كأفضل ما يكون الوصف ثم تتجسد أمامه فجأة الفتاة أو "الرداء الطويل"، يفزع ويرتبك ويدرك أن القهوة بالرغم من كل ما تتميز به من رائحة ونكهة قويتين لم تجدي معه ولم تنسه عشقه الأدبي رد على تعليق
زائر 4 | 11:11 م زائر رقم ٣ انت الكاتب ذاته اليس كذلك؟ رد على تعليق
زائر 5 | 12:40 ص ليتني هو
زائر 6 | 12:41 ص أنا مجرد ناقد
زائر 7 | 5:30 ص لان اكثر من مرة ترد توضح قصد الكاتب ????
موفق